الحق يقال نرى يومياً كماً هائلاً من المعلومات أمام أعيننا يجعلنا نتقيأ حقائق أغلبها تكون ناقصة أو مغلوطة، نسافر بها إلى الماضي وإلى المستقبل، ونحاصر من جميع الاتجاهات بثرثار يدعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، إنهم المتفهمنون، نجدهم في المقاهي وعلى أرصفة الطريق وعلى الشاشات الزرقاء وفي العالم الافتراضي، وربما أنا منهم وأنت منهم، إنه مرض معدٍ خطير أصاب الجميع.
بكل ثقة نفس وبدون سابق إنذار يخبرنا عن معرفته بعدة أمور وفي شتى العلوم، وبالطبع عند الحديث لا يمكنك أن تكمل عباراتك القليلة التي لا تعني له شيئاً، لأنه وبكل بساطة يملك نبع المعرفة في جيب قميصه، لذا سوف تتعلم منه أهم الدروس في الحياة، وهو فن الإنصات والاستماع، كما يقول جبران خليل جبران" لقد تعلمت الصمت من الثرثار، والتساهل من المتعصِّب، واللطف من الغليظ، والأغرب من كل هذا أنني لا أعترف بجميل هؤلاء المعلِّمين."
يستيقظ صباحاً يغلي القهوة ويمسك كتاباً عشوائياً ويجلس أمام آلة موسيقية ليلتقط صورة وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، مع اقتباس لامع يلفت الأنظار، ليبدأ عداد الإعجاب والتعليق بالدوران، ومن ثم يبدأ بالمناقشة والجدل والتنظير بأمور غير مرتبطة ببعضها البعض، بدءاً من العلوم الاقتصادية وصولاً إلى الفيزياء وعلم الفلك، لكن بعد مرور ساعتين أو ثلاث لم يصل إلى مبتغاه، فيقوم بقراءة بعض المواضيع الجدلية التي تنشر يومياً في بعض المجلات الإلكترونية، أو يقوم بقراءة تلك المواضيع التي تظهر وتنتشر بسرعة كبيرة وغير معقولة في جميع الصفحات، ويقوم بقراءة التحليلات والبراهين والتفسيرات؛ ليناقش بها أصدقاءه في المساء، قبل أن يخف صدى هذا الموضوع بعد أسبوع واحد.
بما أننا نعيش في زمن السرعة، فلا نكترث للمعلومات والمواضيع لأكثر من أسبوع، ومن يهتم لتلك الأمور أكثر من ذلك! فنحن نملك كماً هائلاً من المعلومات التي تحدث نفسها بنفسها يومياً، فيجب أن نعاصر المعلومات الحديثة، وننسى المعلومات القديمة التي لن يتحدث عنها أحد بعد الآن.
المعلومات أصبحت فقط للتفاعل مع الآخرين والمشاركة في الأحاديث، لكنك سوف تكتشف فيما بعد أنها ليست مجرد أحاديث عادية، إنها فهمنة، إنها التظاهر بمعرفة كل شيء، لكي يثير إعجاب الجميع ويناديه أصدقاؤه بالفيلسوف، والعالم، والمثقف، والفهمان، والواعي، الذي يرغب بالاستماع إلى أحاديثه الجميع، رغماً عنهم وليس بإرادتهم خوفاً من أن تصيبه هستيريا ويتهم الجميع بالغباء، وعدم قدرتهم على استيعاب العلوم والمعرفة الحديثة والتطور، وهذا ما يحدث عادًة؛ لأنه وبكل بساطة يعتقد أنه الوحيد في هذا الكوكب الذي يملك تلك المعلومات العشوائية التي قرأها في المجلات المعرفية والعلمية الموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الوحيد الذي قرأ بعض الكتب المرشحة من قِبل أناس مجهولين تعرف عليهم على شبكة الإنترنت.
إنه وهم أصبح يسيطر على الأغلبية، إنه وهم المعرفة بمعظم الأمور وبشتى العلوم التي كان يكرهها أيام الدراسة، وفي يوم وليلة وجد نفسه عالماً ومهووساً في تلك العلوم، يقول عالم الفيزياء النظرية ستيفن هوكينغ: "أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، بل وهم المعرفة".
في الحقيقة جميعنا أصبحنا حالياً مصابين بوهم المعرفة، إن المعرفة والقراءة من أجمل الأمور لكننا مهما قرأنا وتعلمنا يجب أن نعترف أمام أنفسنا أننا لا نزال جاهلين، وما نقوم به حالياً هو مجرد مطالعة لجزء صغير جداً من علوم تحتاج سنوات كثيرة للبحث والدراسة؛ لكي نفهم القليل عنها.
من خلال شبكة الإنترنت يمكننا الحصول على الكثير من المعلومات، منها الصحيح ومنها المزيف، إنه مصدر رائع للمعرفة لكن ليس كل ما يذكر هو صحيح، وليست جميع المعلومات المنشورة كاملة، وقراءة مقال أو كتاب لا تخولنا أن نكون قادرين على فهم الموضوع أو معرفته بشكل تام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.