أغنى رجل في بابل

وأنا أرى هنا في خضم الحديث عن التنمية أنه يجب علينا تغيير عاداتنا في الإنفاق، وعلينا أيضاً أن نُسارع إلى تدريب المجتمعات والأفراد مالياً وأخلاقياً، وقد عَنيت بكلمة أخلاقياً أن يتم تدريب الناس وتربيتهم على الاستخدام الأمثل للمال من حيث الإنفاق أو الاستثمار كما هو حال تربيتهم على تحرّي مصادر أموالهم وتعطيل بذرة الفساد لديهم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/29 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/29 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش

إنها المرة الأولى التي لم أجد فيها عنواناً لمقال غير اسم الكتاب الذي قرأت؛ لأقتبسه عنواناً له.

تبدأ حكايتي مع هذا الكتاب عندما سمعت في أحد البرامج المخصصة للتنمية المجتمعية عن اسم الكتاب، وقد استرعاني اسمه للخوض فيه، فما لبثت أن أنهيت قراءته في جولة واحدة.

للأمانة أنا لم أقرأ كتاباً يستطيع الإنسان الملم بالأمور المالية أو من هم مثلي من مدمني أمور التحليل الاقتصادي للأفراد والمجتمعات والأسواق إلا أن يستمتع بقراءته، كما أنني أدعو القارئ العربي من المحيط إلى الخليج لقراءته، إما بنسخته الإنجليزية (The Richest man in Babylon) لكاتبه الأميركي "جورج كلاسون"، أو بالنسخة العربية المقتبسة من الكتاب بتصرف، التي أغنت القصص داخلها موسوعتي الخاصة بمفردات منمقة وأقوال مأثورة، مثل: إننا لا نستطيع أن نتحمل أن نكون بلا حماية كافية، أو: لا بد أن تحتفظ بجزء من إيراداتك مهما كانت متواضعة.

إن ما أعجبني في هذا الكتاب غير سلاسة الموضوع وترتيبه، وضعه لأربع قواعد مهمة في حلول المشكلات المالية، أولاها أن تعزم على أن تجد حلاً لمشكلاتك المالية (الطموح والعزم)، وثانيها أن تعمل على ادخار جزء مهم من إيراداتك، حتى ولو كانت إيرادات قليلة وكانت النسبة المقترحة من قبل "أركاد" -بطل هذا الكتاب ذي القصص المتشعبة- العُشر، ومن ثم تعمل على إيجاد مصارف* لتنمية هذا المال المتوافر لديك والموّفَر من قِبلك لمشاريع سنأتي عليها في مقالات لاحقة.

أما ثالث القواعد المهمة فكانت أن تعزم على إنهاء ديونك من خلال قصة تاجر الإبل "داباسير" الذي تورط في ديون وحاول الهرب ذليلاً بعيداً عن مواجهة أزمته وحلها بمسؤولية، ثم عودته وعدم استسلامه ووضعه لخطة الـ"ثلاثة أعشار"؛ حيث حدد لنفسه سبعة أعشار للنفقات وعُشراً للادخار وعشرين لتسديد الديون. وقد كان بداخله ما يشبه النار المتقدة من العزم والمثابرة والإخلاص لتحقيق ذلك حتى استطاع أن يتخلص من كل ديونه ومن ثم يصبح من أفضل التجار في بابل، وهنا لا يسعني إلا أن أتذكر قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

وبعد ذلك نصل للقاعدة الرابعة المهمة ألا وهي تنمية المال، إذ إن المال عصب الحياة الأهم وتداوله يعني تنمية المجتمع؛ لذا فلا بد لك من أن تنمي الأموال التي ادخرتها في مشاريع كما فعل تجار بابل من قبل؛ حيث كانوا يعطون بعض أموالهم الفائضة إلى أناس لديهم المهارة والخبرة لتنمية أموالهم وأموال الناس لديهم؛ لذا كانت تنمية المال وتنويع مصادر الدخل من أهم الأمور التي تعين الإنسان في صغره وكبره لمواجهة الأمور الدقيقة والصدمات التي قد تقابله في حياته.

وأنا أرى هنا في خضم الحديث عن التنمية أنه يجب علينا تغيير عاداتنا في الإنفاق، وعلينا أيضاً أن نُسارع إلى تدريب المجتمعات والأفراد مالياً وأخلاقياً، وقد عَنيت بكلمة أخلاقياً أن يتم تدريب الناس وتربيتهم على الاستخدام الأمثل للمال من حيث الإنفاق أو الاستثمار كما هو حال تربيتهم على تحرّي مصادر أموالهم وتعطيل بذرة الفساد لديهم.

يقول الكاتب في نهاية كتابه عن بابل: " كانت بابل نموذجاً رائعاً لقدرة الإنسان على تحقيق أهداف عظيمة باستخدام أي وسائل تتاح له، ولقد كانت كل الموارد التي دعمت هذه المدينة الكبيرة من تطوير الإنسان نفسه، وكل ثرواتها كانت من صنع الإنسان، وعلى الرغم من أن مجد بابل قد خبا، فإن حكمتها ما زالت باقية لنا، ونحن ندين بالفضل إلى طريقتهم في التدوين والتسجيل.. فقاموا بحفر كتاباتهم على ألواح من الصلصال.. ومن خلال هذه الألواح حصلنا على رؤية عن الشؤون الخاصة بهؤلاء الناس".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* لم أعنِ بكلمة مصارف، البنوك، فهي بالنسبة لي تعطيل للتنمية من خلال سحب كل السيولة من الأسواق ووضعها تحت تصرف المرابين، أنا أعني بالمصارف الوجهات المالية في مجالات الصناعة، التجارة أو الزراعة، مما يؤدي إن استغلت بالوجه الصحيح – أي وضعها لدى قوي أمين – أن تؤتي أكلها كل حين.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد