يزداد الازدحام كلّما تمددنا عمودياً على خط الزمن، اطراداً مع التمدد الأفقي البشري وغير البشري الحاصل في الكرة الأرضية جمعاء، حتى بتنا بحاجة لابتكار فرع آخر للأرض ليتسنى لكل حي أن يأخذ موقعه في بقعة "مريحة"!
وأقصد بالازدحام، الاكتظاظ الفيزيائي البشري والحيواني والنباتي، إضافة للمادي المتمثل بالأجرام الإسمنتية والمركبات المعدنية والكماليات المتنوعة من جهة، والاكتظاظ في الأفكار والمشاعر والتأملات وكل ما هو حسي من جهة أخرى، كنتيجة حتمية -بطبيعة الحال- عن النوع الأول.
فأصبح من الأهمية بمكان -من وجهة نظري على الأقل- أن يكون لكل منا خارطته الخاصة ذات الإحداثيات الواضحة لكل إقليم من أقاليمها. وبهذا يصبح وجودي ودوري وحقوقي وواجباتي، واضحةً بالنسبة لي أولاً ثم بالنسبة لمن وما حولي من موجودات.
ومعرفتي بإحداثياتي يعني "علمي" بها، أي مدى شعوري وتحسسي لها في كل لحظة، والتماهي معها بحيث لا أنفصل عنها فتصبح غريبة عني أو أتعدى بها -دون قصد- على إحداثيات غيري. فالمعرفة هنا لا تعني فقط إدراك المعلومة، بل هي ما يتعدى ذلك من إداركٍ للشعور وتفاصيله وبالتالي "السلوك" الذي يترجم هذا العلم.
أما عن إحداثياتي الفيزيائية، فيساعدني "إدراكي" لها أن لا أنفصل عنها لحظة شرود ذهني مع جهازي الذكي -مثلاً- أثناء سيري في طريق عام فأرتطم بهذا وأضرب كتف هذا أو أدوس على رجل ثالث!
ولأني أعي وجود تلك الإحداثيات في كوني الصغير، فإني أحترم وجود إحداثيات خاصة بأخي في "الكونية" من كل ذي روح، ولكلٍ في هذا الكون -الكبير- روح، حتى ما يحسبه البعض جماداً!
وكنتيجة فعالة لذلك، يصبح تعاملي مع الأشياء أساسه الاحترام والأنس؛ فالاحترام يتمثل بعدم أذيته، كأن أمشي على الأرض هوناً، وأن أرفق بكرسي الحديقة الذي يتحمل جسدي الثقيل فأكون ممتنة له!
والأنس يتحقق باستحالة أن أكون وحدي، بل بمعية كل هذه الموجودات التي خلقها المؤنِس الأول.. الله سبحانه وتعالى؛ فيكون أُنسي بالقمر-مثلاً- كمخلوق أمارس رياضة التسبيح والمشي برفقته، أو أن أعتذر لتلك الزهرة بأني غفلت يوماً عن سقايتها، ولا تنتهي الأمثلة!
وعن الإحداثيات الروحية، فمدى إدراكي لها متولّد بدايةً من مدى تمكني من سبر أغوار نفسي ومعرفتي بخباياها وتشريحها وتعريتها أمامي لأراها على حقيقتها قبل شروعي بتشريح وتفسير نفوس الآخرين. عندها أكون على علم تام بخطوط الطول والعرض لنفسي، بحرها وبرّها.. سهولها ووديانها، فلا أعد بحاجة لنظام ملاحة أو تموضع (GPS) لأصل إلى المشاعر التي تسيطر عليّ في وقت ما في زمان ما.
وعليه ينشأ لدي نظام ملاحة أتوماتيكي -دون تكلّف- يأخذني إلى حيث تستقر هذه النفس في موضع حزنها أو فرحها أو إحباطها أو خوفها.. وما إلى ذلك من مشاعر وحالات. وينتج عن هذا وضوح وسلاسة في التعبير عن النفس والمشاعر، ومعرفة تامة -قدر المستطاع- بمتطلبات كل حالة.
وبالتالي تعطيني هذه الإحداثيات الروحية مساحتي التي تحفظني من اختراقات الآخرين، كما تتجلى أمامي حقيقة وجود إحداثيات مماثلة لكل موجود في هذا الكون، فلا أتعدى ولا أطغى على مساحته. فتُخلق بيننا مساحة أمان تضمن وجودنا دون ارتطام يُحدث زلزالاً في العلاقات أو انفجاراً بركانياً في الصداقات.
ومن النتائج العظيمة لهذا، أن أضمن ملف حسن الظن، وسوء الظن أيضاً، من التلف، لتبقى العلاقات مبنية على أساس احترام رسم إحداثيات مشاعر وأفكار الآخر.
لا أدّعي علماً في علم النفس أو مهارة في التنمية البشرية أو غيرها من هذه العلوم، لكني نقلت تجربتي وتأملاتي فيما تعلمته من بعض أستاذتي وملهمي هذه الدنيا. ولا أدعي الكمال ولا نطلبه من أحد، فنحن لا نزال بشراً نُخطئ ونُصيب، نعي ونَغفل، لكن مع هذا نسعى لكي نحقق إنسانيتنا مع أنفسنا ابتداءً، ومع كل ما ومن حولنا، لذا رسمنا لإحداثياتنا نحن من نصنعه ونحن من نطوّعه لنحقق التوازن في هذا الكون.
وهذا معنى أحببت أن أوصله لكل فرد أصادفه في حياتي.
والحقيقة العظيمة التي يجب أن أنطلق منها في رسم إحداثياتي، أنني لستُ وحدي على هذا الكوكب وإني لستُ مركزه.
فماذا عن إحداثياتك؟…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.