الأسرار المغلقة عن العنف الجنسى فى البيوت المصرية

نعم، يعيش المجتمع فى حالة دائمة من الإنكار النفسى والاجتماعى، لا ينتبه إلى المأساة التى تستفحل وتنتشر بشدة، والتى لا يتم الحديث عنها بدعوى إنها "أسرار البيوت المغلقة"، يسب الفتيات الميتقلات مادياً واجتماعياً ، بدون أن ينظر إلى كم الاعتداءات الجنسية والنفسية والجسدية التى تكابدها معتقلات البيوت المصرية،

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/26 الساعة 01:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/26 الساعة 01:00 بتوقيت غرينتش

(1)
رأيت منشوراً لناشطة نسوية وطبيبة فى صفحتها الشخصية على الفيسبوك تطرح فيه تساؤلاً للفتيات والسيدات، "هل تعرضتِ من قبل للتحرش أو الاغتصاب من قِبل أقارب من الدرجة الأولى كالأب أو الأخ؟"، لتجد بذلك سيلاً من التعليقات على منشورها تتهمها بإنها إنسانة مريضة نفسياً تسعى لإثارة البلبلة وجذب المزيد من المتابعين لها، لإن سؤالاً مثل هذا لا يمكن طرحه فى بلد "آمن جداً" للمرأة كمصر، فديننا الحنيف يمنع من حدوث مثل هذه الحوادث خصوصاً وإن الأب والأخ هم السند والقوة لأى فتاة، ولا يمكن لأى أب أو أخ أن يعتدى على "عِرضه"، ومن ثم فما سؤالها إلا مؤامرة دنيئة مُحاكاة منها لتشويه سمعة الفتيات وسمعة الوطن.

ذُهلت كثيراً عندما قرأت كل هذه التعليقات من حالة الإنكار التى يعيشها مجتمعنا -خصوصاً الذكور منهم- تجاه ما يحدث لنسائِه، وصممت عن التنقيب خلف الموضوع بحثاً عن حالات يمكنها أن تحكى ما حدث، لأثبت إن خلف أبواب البيوت المصرية المُغلقة أسرار لا يتم الكشف عنها خوفاً من المجتمع، الناس، الفضيحة، والأهل ذاتهم.

(2)

بذلت مجهوداً مضنياً فى البحث، فرغم وجود الكثيرات ممن تعرضن لمثل هذه الحوداث البشعة إلا إن أغلبهن لا يرغبن فى التحدث إما من الخوف أو لعدم الرغبة فى تذكر الواقعة الأليمة، وهذا هو السبب الرئيسى فى عدم وجود إحصائيات دقيقة توضح نسب الفتيات المنتهكات جنسياً فى بيوتهن من الأقارب الدرجة الأولى، ومع هذا وفقنى الله فى العثور على بعض الحالات اللاتى تحدثن عما عايشنه من انتهاك، مع التشديد على عدم ذكر اسماءهن أو بياناتهن، أذكر لكم إحدى حكاياتهن…

(3)

"كان أبى مسافراً طوال الوقت، يأتى شهراً كل عام، فكبرت وأنا لم أعرفه بشكل واضح ولم يعرفنى بشكل صحيح، وكانت هذه هى الفترة السوية فى حياتى، حيث كنت متفوقة دراسياً بشكل كبير، لى نشاطات مدرسية كثيرة ومحبوبة من الناس إلى حد كبير، إلى أن قرر أن يعود للعيش فى مصر وأنا فى العاشرة من عمرى.

كان أبى متديناً تديناً غليظاً، يتعامل معى منذ عودته بعنف شديد، وإهانات مسمترة وانتهاك جسدى ونفسى كبير بدون مبرر، وكنت طفلة آنذاك فلم أفهم لما يكرهنى أبى لهذا الحد، انطويت على نفسى وأصبحت اتبول لا ارادياً من شدة الخوف الدائم من العقاب المستمر على أى شىء، ثم بدأ يجبرنى على الأعمال المنزلية، كنت أشعر بإن عينيه تحاصرنى فى كل مكان بشكل غريب، ورغم حداثة سنى التى لم تمكننى وقتها من فهم ما وراء هذه المحاصرة إلا إنها كانت تشعرنى بعدم الارتياح الدائم، كأننى عارية، ثم بدأ يلمس جسدى فى مناطق حساسة، ولم أفهم أيضاً لم يفعل هذا لكننى كنت اتضايق بشدة، ثم تطور اللمس إلى أن ينام فى سريرنا أنا وأختى -التى كانت أكبر منى بعام- مثتحججاً بإنه سيحكى لنا حكاية إلى أن ننام، حتى تذهب أختى فى النوم ليتحرش بى فى كل أنحاء جسدى.

أصابنى هذا باضطرابات فى النوم، فكنت أصر على السهر ليلاً حتى لا يتكرر هذا مجدداً، وأقسم لك إننى لم أفهم ما سر هذا الحنق والغضب الشديد الذى يملأنى من جراء ما يفعله بى، ولم أفهم سر نفورى منه وابتعادى الشديد عنه ورغبتى فى مقاومته، بل إنى لم أفهم ما هى سبل المقاومة أصلاً.

ازداد الأمر سوءً حين خطوت بقدمى أولى سنوات المراهقة ، فقد استيقظت فى أحد الأيام بعد مدة طويلة من النوم منهكة وتعِبة، ووجدت على ملابسى سائل لزج أبيض اللون، وحاولت أن أتذكر بجهد عسير ما حدث ليلة أمس، لكنى لم أتذكر سوى خيالات غير محددة.

أصبحت عدائية وعنيفة جداً تجاهه، وبدأت أُظهِر العنف تجاهه، فلا أجلس معه واتحدث معه بلهجة تمتلأ بالغضب اتجنب النوم ليلاً إلى أن ينام، واتجنب ممارسة أى نشاط أمامه أو معه، ورأيت الخوف منى فى عينيه، خوفه من أن أتكلم، فلم يكرر فعلته معى مجدداً.

أتظنين إن الأمر انتهى عند هذا الحد؟ اطلاقاً يا عزيزتى.. تيقنت بإحساس الأخوة والضحية معاً إن هذا يحدث مع أختى أيضاً، فمن تم التحرش بها وانتهاكها تشعر بنظرة الكره والانكسار بعينى من عايشت التجربة مثلها، فضلاً عن ملاحظتى إن نظراته القذرة المريضة بدأت فى التحول تجاهها، فواجهتها وانهارت باكية وحكت لى إن هذا يحدث منذ وقت طويل وبأشكال أكثر قوة وعنفاً منى.

أصبحت أقرب لأختى من يومها، وأخذنا على عاتقنا مد بعضنا البعض بالقوة لمواجهته، وحين وصلت إليه هذه الفكرة بسبب تغيير أختى المفاجئ والعنيف معه بدأ يضطهدنى بشدة ويمنعنى من الخروج وممارسة الحياة الطبيعية، بل من حتى الوقوف فى الشُرفة، فضلاً عن نهره الدائم لى بسبب طريقة ملابسى وتعاملى مع أى ذكر فى محيط حياتى، رغم إن الله يشهد إننى لم أخرج أبدأ عن حدودى وكنت أرتدى ملابس واسعة وطويلة.

عانيت من الاكتئاب، امتلأت بالطاقة السلبية واللامبالاة فى كل شىء، وما زاد حالتى سوءً هو إنى حاولت أن أحكى لأمى ما حدث، وحين واجهت أبى كذبنى فصدقته، أهملت دراسة الثانوية العامة وتخرجت منها بمجموع فقير جداً، اضطررت إلى اللجوء لدكتورة نفسية فهمت منها إن إفراطى فى الطعام ونهمى الشرِه وازدياد وزنى المبالغ فيه ما هو إلا نتيجة واضحة لما حدث.

سافر أبى المريض فى أول عام لى فى الكلية، وكان سفره بمثابة إفراج بالنسبة لى، قررت أن أتغير وأخرج من الحالة السيئة التى أُعايشها، فتبعت حمية غذائية وتغير شكلى كثيراً وأصبحت أفضل، وأخطط للاستقلال المادى ما إن انتهى من الدراسة، لم يبقى سوى عام واحد، ادعيلى"

(4)

ولحرصى الدائم على تناول الشق العلمى فى كل شىء، سارعت بالاتصال بأحد الأطباء النفسيين الذين ورد عليهم حالات مثل هذه، حتى توصلت إلى الدكتور أحمد سواحل.

كان د. أحمد نعم العون، فقد أجاب على كل ما تقرح فى عقلى من اسئلة فى هذا الموضوع الشائك، والذى كان أولها " هل رد عليك عدداً كبيراً من ضحايا هذه الحوادث؟" فقال بالطبع، ولكن المجتمع يرفض تصديقها ويعيش فى حالة من الإنكار، فضلاً عن عدم قدرة الكثيرات على الحكى بدرجة يصعب فيها توثيق الحالات.

ثم تساءلت "ما هى الآثار النفسية الناجمة عن حدوث مثل هذه الاعتداءات على الضحية؟"، فأجاب د. سواحل بإن مثل هذه الحوادث يصدر عنها أزمات نفسية حادة، وهى تختلف من ضحية إلى آخرى تبعاً لاختلاف ظروف الواقعة ومدى قدرة الضحية على التحمُل.

تحدث اغلب هذه الاعتداءات فى سن صغيرة، فيتكون لدى الطفلة خلط غير مفهوم، فتقع فى دائرة الحيرة ما بين إن من ينتهكها هو شخص من المفروض أن يحبها ويوفر لها الأمان والحماية.

تصل الأزمات النفسية المترتبة بالضحية إلى الانتحار، أو على الاقل إلحاق الأذى بالجسد، وهذا يحدث لأن الضحية ترى إن جسدها هى السبب الأساسى فيما وقع لها من انتهاك، فتكرهه وتحاول أن تؤذيه بشتى الطرق، عن طريق القيام بجروح وخدوش وسحجات عميقة فيه، أو محاولة "الاختفاء"، بمعنى ان تتوقف عن تناول الكميات المناسبة من الطعام التى تمدها بالطاقة اللازمة لممارسة النشاطات اليومية، حتى يقل وزنها بشكل مرضى وملحوظ جداً لتصبح مجرد هيكل عظمى، أو العكس بتناول الطعم الشرِه والنهم الزائد لتصبح شديدة السمنة، وفى الحالتين يكون مبررها إنها هكذا أضبحت قبيحة ولن يشعر أحد تجاهها بالشهوة فلن يتم انتهاكها.

ترفض الضحية الزواج وتمقته، بل وتنفر من جنس الرجال بشكل عام، فهى غير قادرة أصلاً على تكوين علاقات اجتماعية سليمة، بل إن إحدى مريضاتى طلبت نقلها لدكتورة مُعالِجة لأنها لا تستطيع الاستمرار مع رجل، فإذا اقتنعت بالزواج وتكوين الأسرة -وهذا فى مرحلة متقدمة جداً من العلاج- ترفض العلاقة الجنسية وتكرهها.

ثم سألته "ما الذى يدفع أب أو أخ أن يتحرش بابنته أو أخته؟"، فأجاب قائلاً إنه يجب توضيح إن هذا لا يحدث من الأب والأخ فحسب، بل ممكن من الاخت أو الأم أيضاً! وإن أى فعل انتهاك أو اعتداء يصدر عن أخ أو أخت فى سن أقل منال18 هو شىء لا يمكننا اعتباره بالضرورة تحرش، لأن الجانى لايزال قاصراً غير قادراً على التعامل بشكل ناضج وسليم -وهو شىء اختلف فيه كثيراً معه-، ثم أوضح إن من أهم الأسباب النفسية التى تدفع أقارب من الدرجة الأولى إلى التحرش هو الإدمان، إدمان السلوك، أو عدة من الانحرافات والأمراض النفسية مثل الفصام والهوس الجنسى وعدم القدرة على الحكم على الأمور بشكل سليم، أو اضطرابات نفسية مثل محاولة اثبات القوة وممارسة القهر على طرف أضعف، أو إن الطفلة الواقع عليها الانتهاك تشبه أم أو زوجة المُعتدى والتى يكرهها كثيراً، فأغلب الانتهاكات مردودها نفسى بالدرجة الأولى وليس للشهوة الجنسية.

وأخيراً سألته "ما الذى يمكن للطبيب النفسى أن يفعله إذا وردت عليه حالة مماثلة؟" فقال إن القانون لا يعطيه حق التصرف فى أى شىء، وحتى إذا اشتكى للجهات المختصة فالضحية يتم تعنيفها والاعتداء عليها لتغيير أقوالها، وبفرض إنها لم تغيرها وإن القانون قد تحرك لمساندتها بالفعل، فإنها تستمر فى الإقامة مع أسرتها ولا أحد يعلم مدى الخطر المحدق بها فى هذه المرحلة، ولذا لا يوجد فى يديه أى شىء سوى أن يشجعهن على محاولة الاعتماد على أنفسهن والاستقلال إذا ما كن فى سن تسمح بهذا، أما إذا كانت قاصراً أو طفلة فلا يوجد أمامنا سوى الصمت العاجز.

(5)

نعم، يعيش المجتمع فى حالة دائمة من الإنكار النفسى والاجتماعى، لا ينتبه إلى المأساة التى تستفحل وتنتشر بشدة، والتى لا يتم الحديث عنها بدعوى إنها "أسرار البيوت المغلقة"، يسب الفتيات الميتقلات مادياً واجتماعياً ، بدون أن ينظر إلى كم الاعتداءات الجنسية والنفسية والجسدية التى تكابدها معتقلات البيوت المصرية، واصماً إياهن بالعهر وما العهر إلا فيه، وسط صمت قانونى عاجز غير رادع وغير قادر على توفير الحماية، مع منظمات مجتمع مدنى تتعرض للاضطهاد من مؤسسات المجتمع الرسمية وتتقيد بعدم وجود تمويل كافى يساعدها فى مهامها الأساسية.

حقاً إن مجتمعى لا يفعل أى شىء سوى أن يسب "بتوع حقوق المرأة" ويمارس عليهم عنف حقيقى واضح، لكن حين يرى أمامه إحدى المنتهكات يكتفى إما بتكذيبها أو بمصمصة شفتيه، مجتمع "ديوث بشدة"!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد