يجري الحديث في هذه الآونة، عن قيام نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالبحث عن كيان جديد يتولى تنظيم الأنشطة التي كانت تنظمها جماعة الإخوان المسلمين، بعد عمليات القمع والعزل الاجتماعي التي مارسها النظام المصري على الجماعة.
ويرى البعض أن منظمة فتح الله غولن، التي بدأت بتكثيف نشاطاتها في مصر بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذتها للسيطرة على الحكم في تركيا منتصف يوليو/تموز الماضي، لن تتردد في قبول أي مقترح من القاهرة في هذا الاتجاه، وستكون مستعدة لملء الفراغ الناتج عن إقصاء الإخوان في مصر.
وكان نظام السيسي أعلن عقب الانقلاب العسكري الذي نفذه في يوليو- تموز 2013 ضد محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً في مصر، جماعة الإخوان المسلمين (التنظيم المعارض الأقوى له في البلاد) تنظيماً إرهابياً. وتسبب منع الجماعة من القيام بنشاطات اجتماعية ومدنية خصوصاً في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وغيرها، لتعرض مئات الآلاف من الأسر لأضرار كبيرة، خاصة وأن الخدمات التي كانت الجماعة تقدمها كانت تصل إلى الشرائح المحرومة من رعاية الدولة في بلد ينتشر به الفقر على نطاق واسع.
وتم إغلاق ومصادرة عشرات المؤسسات التي كانت تنظم أنشطة إنسانية بما في ذلك المدارس والمستشفيات، وتجميد جميع الموارد المالية التي يعتقد أنها تابعة للجماعة، لتتوقف بذلك الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والإنسانية المتعددة التي كانت تجريها الجماعة، نتيجة تعرض منتسبيها للملاحقة. وفي هذا الإطار حاول النظام تعويض الفراغ الحاصل من خلال إنشاء عدة مؤسسات للزكاة والصدقات إلا أنها لم تسهم بشكل كامل في ذلك.
البحث عن بديل لجماعة الإخوان المسلمين
لم يتم إذن تعويض الفجوة الناجمة عن انسحاب جماعة الإخوان من الحياة الاجتماعية في مصر. وعليه يقف النظام المصري أمام عدة خيارات لملء هذا الفراغ:
الخيار الأول: أن يسعى نظام السيسي لإدارة الأزمة عبر مؤسسات داخل هيكليته التنظيمية، كما حاول بالفعل من قبل، والثاني هو الاستفادة من بعض الجماعات الصوفية والسلفية الناشطة في هذه المجالات، أما الثالث فهو أن يطلب من منظمة فتح الله غولن القيام بأنشطة بديلة لأنشطة جماعة الإخوان بعيداً عن المجال السياسي، سيما وأن المنظمة قد كثَّفت نشاطها في مصر وافتتحت فيها دار نشر باسم "دار النيل للنشر والتوزيع" ومجلة باسم "مجلة حراء" بهدف بث أفكار فتح الله غولن داخل المجتمع.
ويبدو الخيار الثالث الأفضل نسبياً، إذ إنه لا يمكن القول أن بنية المؤسسات الرسمية والعسكرية تمكنها من إدارة كل هذه الأنشطة، كما أن المجموعات السلفية والصوفية، لدى كل منها بنية فكرية وهيكلية تنظيمية مختلفة، ما يجعلها غير قادرة على ملء المساحات التي انسحب منها الإخوان، كما أن حزب النور وبعض المجموعات السلفية، أخذت في الابتعاد شيئاً فشيئاً عن المجال السياسي، رغم تأييدها للانقلاب، وفيما يتعلق بالحركات الصوفية، فرغم الأعداد الكبيرة لمنسوبيها إلا أنها لا تملك التجربة التنظيمية الكافية.
الهيكلية التنظيمية لمنظمة غولن في مصر
تعتبر منظمة غولن مصر مركزاً إقليمياً. إلا أنه من المحتمل أن تتحول مصر إلى مركزٍ للمنظمة، إذا ما رفضت الولايات المتحدة الاستجابة لطلبات تركيا المتعلقة بتسليم غولن وغضَّت النظر عن خروجه من مكان إقامته في ولاية بنسلفانيا إلى بلدٍ ثالث. قد تنظر القاهرة بإيجابية لاستقبال غولن، الذي تمكَّن من خلق قاعدة مرتبطة به داخل المجتمع المصري عبر المدارس التي أسسها والتراجم التي نشرها أتباعه في مصر، إضافة إلى خطابه المناصر لما يسمى "الإسلام المعتدل المناهض للعنف" ما يجعله يتشابه مع جماعة الإخوان في هذا الجانب.
حاليًا تمتلك منظمة غولن عدداً من المؤسسات التعليمية في القاهرة والفيوم وغيرها. كما تمتلك المنظمة في مصر أنصاراً بين الأكاديميين ورجال الأعمال المرتبطين بها. وتمنح المنظمة عند اختيارها لأعضائها الجدد في مصر الأولوية للشخصيات المؤثرة في المجتمع التي انفصلت عن جماعة الإخوان. وعند الأخذ بعين الاعتبار الاستثمارات التجارية، ومعاهد تعليم اللغة، والعقارات التي يتم شراؤها من أجل إقامة مدارس جديدة تابعة للمنظمة في مناطق مختلفة من البلاد، نستطيع القول إن من المرجح منظمة غولن وفي حالة اختيارها لمصر كمركز لنشاطاتها، فإنها ستتجه نحو مرحلة تجري خلالها أنشطة تهدف إلى التمدد وبناء هيكلية تنظيمية مماثلة لتلك التي تمتلكها في الولايات المتحدة.
مساعي منظمة غولن لتقليد الإخوان
من المعروف أن منظمة غولن تسعى إلى تقليد جماعة الإخوان في بعض الجوانب. حيث أن المنظمة أساساً أخذت عن الإخوان نظام "الأسرة" داخل هيكلية الجماعة. ويتم تعيين مسؤولٍ عن عدد معين من المجموعات العائلية، وبناء تسلسل هرمي أولاً في كل منطقة وثانياً في عموم البلاد، وذلك وفقاً لكثافة السكان وانتشار الجماعة ضمن المناطق السكنية، بهدف تنسيق العمل ضمن تسلسل هرمي معين.
إضافة إلى أن زعيم المنظمة يتناول خلال خطبه وأحاديثه أفكاراً يستشهد بها من رسائل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وكتاب في ظلال القرآن (كتب تفسير القرآن) الذي ألفه سيد قطب. لذا، فلن تجد المنظمة أي عقبات في التأقلم مع الوضع العام في مصر، وستكون بالنسبة للنظام بمثابة جماعة وحاضنة شعبية بديلة عن الإخوان وموالية له ودون نشاطاتٍ سياسية. وستشكل مليارات الدولارات التي تمتلكها المنظمة عامل جذب آخر للنظام الذي يعاني من مشاكل اقتصادية صعبة.
وسبق لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو أن قال: "نحن نرى مساعي زيادة العلاقات المتبادلة بين مصر ومنظمة فتح الله غولن الإرهابية". لذا من الممكن عقد تحالف بين المنظمة ونظام السيسي، يمتلك بموجبه غولن القدرة على التوسع والتمدد داخل مصر وسد الفجوة التي خلقتها انسحاب جماعة الإخوان المسلمين من الحياة الاجتماعية في مصر عقب الانقلاب العسكري، وبناء جماعة جديدة داخل المجتمع المصري تتبع نهجاً "بعيداً عن السياسة يتبنى الإسلام المعتدل". أما نظام السيسي فسيطلب من المنظمة نقل استثماراتها الموجودة في بلدان مختلفة والانتقال إلى مصر، ومن ناحية أخرى، سيسعى للاستفادة بجميع الطرق من المنظمة، المدعومة أيضاً من عدد من دول الخليج، في سياساته المناهضة لتركيا، وفي المقابل ستنتظر المنظمة كافة أشكال الدعم من النظام المصري، لتتمكن من إدارة أنشطتها، بعد أن اتضح أنها لن تتمكن من الاستمرار في العمل بتركيا.
التقارب بين منظمة غولن والسيسي
سيكون من المفيد هنا الإشارة إلى اللقاء الذي أجراه رئيس الشؤون الدينية التركية، محمد غورماز، مع موقع "عربي بوست"، ونشره الموقع على حسابه على موقع فيسبوك يوم 5 أغسطس/آب الجاري. وقال غورماز في اللقاء إنه قام يوم 14 أغسطس/آب 2013، الذي شهد فض اعتصام رابعة بالقاهرة، بالاتصال بمفتي مصر السابق، علي جمعة، والذي كان على علاقة قديمة معه، وقال له "أين العلماء؟ أين الأزهريون؟ أين أنت؟ أين شيخ الأزهر؟ ماذا تفعلون؟ ماذا نعمل؟"، ورد علي جمعة بطلب اللقاء بغورماز، فطلب منه غورماز القدوم إلى إسطنبول لأنه لا يمكنه الذهاب إلى القاهرة، وفي النهاية اتفق الاثنان على الالتقاء في العاصمة الأردنية عمّان، يوم السبت التالي للمكالمة.
وأضاف غورماز، أنه عقب انتهاء المكالمة مع علي جمعة بنحو 15 دقيقة، اتصل به الرجل الثاني في منظمة فتح الله غولن، مصطفى أوزجان، الذي كان واعظاً في رئاسة الشؤون الدينية التركية، وقاله له "علمت أنك ستلتقي علي جمعة في عمّان، وعندي اقتراحان الأول أن نلتقي قبل زيارتك لعمّان، والثاني هو أني أريد أن أرافقك إلى عمّان "، وعندما سأله غورماز عن كيفية علمه باللقاء المزمع في عمّان، قال أوزجان إن علي جمعة اتصل به وأخبره.
وتابع غورماز أنه التقى أوزجان بالفعل في إسطنبول، وأن أوزجان قال له خلال اللقاء "أنت ورئاسة الشؤون الدينية والحكومة التركية على طريق خطير في مسألة مصر، لأن السيسي رجل مؤمن وصالح، ونحن نعرفه وشيخي يعرفه، ولنا صلة قوية معه"، وقام بانتقاد محمد مرسي.
وأضاف غورماز أنه شاهد في نفس الليلة على قناة الجزيرة خطاب السيسي للجيش، وفوجئ برجل معمم يجلس في المقاعد الأولى واكتشف أنه علي جمعة، وعندها اتصل بعلي جمعة وقال له "يا شيخ هذا فراق بيني وبينكم، لا يمكن أن نلتقي في أي شيء"، وألغى اللقاء المزمع في عمّان.
إلى ذلك، قال وزير العدل التركي "بكر بوزداغ"، في وقت سابق، إن "فتح الله غولن الآن، بات مكشوف الأوراق، بالنسبة للولايات المتحدة ودولة أخرى، ولا أعتقد أن أي دولة عاقلة من الممكن أن تراهن على مثل هذا الشخص".
غير انه على أرض الواقع، يبقى من المحتمل أن يتوجه زعيم تنظيم الكيان الموازي غولن إلى مصر، في حال لم يتم تسليمه إلى تركيا. وهنا يبقى موضوع الطريقة التي سيتعامل بها النظام المصري مع المنظمة مثيراً للفضول، فهل سيتصرف نظام السيسي مع منظمة غولن بحذر انطلاقاً من التجربة التركية أم سيفتح الأبواب على مصراعيها من أجل زيادة التعاون بين الجانبين في العديد من المجالات؟.
يمكننا القول أنه في حال تلقي منظمة فتح الله غولن، عرضاً من القاهرة لتصبح بديلاً للإخوان في مصر، فإنها ستقبل فوراً به، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المنظمة زادت بالفعل من أنشطتها في مصر، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي نظمها عناصرها في تركيا.
وستظهر الأيام المقبلة ما إذا كانت المنظمة ستتخذ خطوات في سبيل أن تصبح بديلاً للإخوان المسلمين، وذلك في حال اختارت المنظمة ووافقت القاهرة على، أن تصبح مصر مركزها الجديد بعد الولايات المتحدة.