أعيش بين عالمين كعميل مزدوج، ولدَ لتلفحه الشمس وتهب عليه نسائم المكيف في آن، يشفع له اسمه في جميع الأوقات فلا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، سمّاني والدي آلاء، مما سهل عليَّ التغلغل في نطاقات خارج إطار شيخة ودلال ونورة، وكثيراً ما استخدمت اسم عائلتي الأصغر (الصِّديق) بدل قبيلتي الخليجية (العبيدلي) لأنعم بمساحة خارج التصنيف، سهَّلت عليَّ مهمة الاطلاع على عالَم المواطنين والوافدين في منطقة المنتصف الممتعة.
الخليج الذي يقول غازي القصيبي عنه: خليج ما وشوش المحار في أذني، إلا سمعتك صوتاً دافئ الخدر. ويقول عنه الجواهري: يسيل بقاحِلٍ عذب فرات.. وفي الرمل اليبيس يرف عود.. وقفت على الخليج تذوب فيه.. زمردة يزانُ بها الوجود، يأتيه الأغلب مجبرين أو مختارين للملجأ والرزق فيحتاجهم ويحتاجونه، وهو فرصة لا بد لهم فيها من دليل.
اصنع القوقعة ثم اخرج منها
هذا الوقت الممتد الذي لا توجد مقاهٍ تملؤه وتقل فيه الفعاليات الثقافية العفوية يحتاج أن تعود فيه إليك وتتعرف على نفسك في عزلة ممتعة، ثم بعد أن تبني قوقعة الملجأ الخاصة بك وتستأنس بها، يحين الوقت لتبدأ في اكتشاف العالم المتحفِّظ بنسب تتفاوت بين مختلف دوله، ولا داعي أن أذكرك بأنك متوسط أصدقائك الخمسة الذين تقضي أكثر وقتك معهم، أعطِ الجميع مساحة حذرة، لربما كان ذلك الذي تتجنبه لصورة نمطية ذهنية هو صديق الغربة.
لا توقظ الكائن الاستهلاكي
لن تصبح أكثر سعادة، يستبدل الناس الأشخاص والأمكنة بالأشياء حين ينتقلون ولكن لنقطع عليك الطريق قبل أن يفرغ جيبك وتقع في الديون، هذا لن يحدث، يؤكد ذلك التاريخي ستيرنز في كتابه "تاريخ النزعة الاستهلاكية"، تميل هذه المنطقة إلى الوقوع تحت تأثير اقتصاد الرأسمال، فترى أوقات المناسبات العالمية والمحلية ترويجاً هائلاً لمزيد من الشراء لا ينخفض إلا ليتجدد، ستظن أنك تحتاج جلسة حديقة خارجية في الشرفة وسيخيب ظنك حين تضطر لتغطيتها عن الغبار أغلب الوقت، استمتع دون تبذير وفكر في القيمة، ربما حان الوقت لتستهلك في تعلم مهارة جديدة أو السفر لبلد غير معروف، أو تنمية مكتبتك ولعب طفلك الهادفة، بدل أن تقف وتقول: "أهلكتُ مالاً لبداً".
لذة الطعام.. احرص على ما ينفعك
يحدث أن تلتقي بالحضارات ومطابخها في مجمع واحد؛ الهندي أمام الإيطالي، والصيني بجوار اليمني، وقد تلتقي بالعولمة الشاملة وجهاً لوجه في جبهة الأكل كما يسميها المسيري، ولك أن تختار أي مستهلك تكون، الأكل هو مصدر المتعة الأولى هنا، وأكثر مشروع تجاري ناجح، بدءاً من حساب يبيعه على الانستغرام إلى حساب يقيم الموجود، هناك عدد من التطبيقات المفيدة تختصر الوقت والجهد والتجارب السيئة منها، Zomato، وطلبات، وهنقر ستيشن، يمكنها أن تكون مفيدة.
لتكن هوايتك الجديدة: الرياضة
بعد كل هذا الطعام، ومع كل هذا الحر الذي يسيطر على أغلب العام، وكون مدننا مدنًا غير صديقة للمشاة، فإن المشي على كورنيش الخليج في شهر مارس لن يكون كافيًا أمام قياسك الذي سيصدمك بتغيره في أغسطس، أعرف أصدقاءً تعلموا رياضات جديدة مثل السباحة، وركوب الدراجة الهوائية، والغوص، وأصبحوا يشاركون في سباقات عالمية لهذا السبب، كانت لهدف صحي وأصبحت مصدر للمتعة والتحدي لترويض الجسد.
إلا السياسة
في دول ترفض اعتبار معتقلي الرأي فيها أي شيء آخر سوى أنهم مجرمون، تذكر لي إحدى الصديقات أنها سارعت بحذف كل أصدقائها الذين يضعون شعار رابعة من على الفيسبوك بعد أن سمعت أحد الأطفال يهدد صديقه: "أكيد انت من الإخوان المسلمين وبياخدوك أمن الدولة ورا الشمس"، آخر كان يلفظ الشهادة وهو يهذب لحيته عند حلاق تركي بعد يوم من فشل الانقلاب حين أخبره الحلاق بعد أن بارك له صديقنا بأنه من مؤيدي الانقلاب، لم يحن الوقت بعد لينتقل العالم الافتراضي إلى الواقع هنا، لك أن تكون سياسياً لكن لا تبالغ في ذلك وتجعل السياسة بديلاً لصباح الخير وكم هو حار الجو اليوم!
إنها الصحراء
لم يبنِ أحد هذا الإسمنت إلا بعد أن ظهر النفط، عصيَّة على السكنى هذه الرمال، كان ساكنوها بين الشاطئ والآبار في تنقل بحثاً عن الحياة، فلا تتوقع أن يتغير مناخها بسهولة ولا تنقم الحر فهو هنا منذ مئات السنين، ولم يزدد إلا لهيباً، ولن يغير تذمرك منه شيئاً، كذلك لا تفعل أمام ما اعتاده الناس من حياة هنا، فعلى الرغم من نسبة المواطنين القليلة ومن الانفتاح المشهود، فإن التشبث بما هو آخذ في الزوال من عادات يأخذ شكله الحاد.
"هذي ربيعتج أم عباية لا تيبينها مرة ثانية"
هكذا قالت صديقتي في نهاية لقاء جمعتها فيه بصديقة أخرى باحت فيه بأنها تكره العباءة التي نرتديها وتكره سوادها، يبدو أنها لم تستمع للأغنية التي تقول: "يا أم العباية حلوة عباتج"، ولم تقرأ للشاعر وهو يكتب: لمن كل هذا الجمال الذي لا يضاهى.. وفيض النعيم؟ لمن ترسل الشمس وهج التلاقي.. وسود العباءات قد طرزت بالقلوب.
اقرأ تفهم
هناك كتب جميلة تعكس جانباً من الخليج، حلوه ومره، متداخلاً مع عوالم أخرى، تستحق القراءة وإن كانت لا تجسد الصورة الكاملة:
* شقة الحرية، غازي القصيبي.
* ساق البامبو، سعود السنعوسي.
* سمراويت، حجي جابر.
* سقف الكفاية، محمد حسن علوان.
* الموت يمر من هنا، عبده خال، مجموعة قصصية.
* أميرة الجبل، نجيب الكيلاني.
* ارتطام لم يسمع له دوي، بثينة العيسى.
* عيناك يا حمدة، آمنة المنصوري.
* الشراع المقدس والقرصان، عبد العزيز آل محمود.
* سرد الذات، الشيخ سلطان القاسمي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.