هناك فقط، حين يتغير طعم العالم، حين تتلاشى ألوانه ويتعكر صفاؤه، هناك فقط، حين تتوالى القذائف وتتعاقب الصواعق، هناك فقط، حين يصبح القتل طبيعياً، والدمار طبيعياً والتشرد طبيعياً، حين يصير حظر الحياة الطبيعية طبيعياً، واللجوء إلى غير أوطان طبيعياً، حين يضاهي عدد القتلى حبات رمل البحر والمنكوبين والمجروحين زبده، حين يكون الحزن سيد المشاعر.. هناك فقط حين يطول الحداد!
وكتطور العالم وتقدمه، تتطور المشاعر السلبية تجاه الإنسانية، تنمو وتتضخم، وتنال قسطاً وافراً من العدوانية.
كنت قد كتبت قبل أعوام خاطرة أرثي فيها الحالة التي وصلنا إليها كبشر، وكنت آمل أن تكون آخر أحزان قلمي الجريح، لم يخطر قط ببالي أن أجلس اليوم وأنبش بذات القلم، ذات الحيثيات، أو بالأحرى أن أدعوه لجلسة حزن نرتشف فيها المر معاً، نبكي على الأطلال ونحكي في ذات الأحزان، أن نسافر على متن ذات السفينة ونبحر، وذات المشاعر.
مشاعر لا اسم لها، ولا وصف، كل ما أعرفه أنها نيزك من السواد، حل هنا وأبى الرحيل، متثاقل بالألم، مبتل بالدموع، متصدع بآهات الكبار وصرخات الصبية.
نيزك قلبه شرارة غضب تخاف أن تشيط وغلافه أشلاء قتلى، مختلفين في ألسنتهم وجنسياتهم، ومتطابقين في كونهم بشراً.
كم صرت أمقت التكنولوجيا، تلك التي احتضنتنا بحجة العولمة، قيل إنها جعلت العالم قرية صغيرة! أي قرية هذه؟ ولا نستطيع حتى أن نضمد جروح بشر تنزف أمام أعيننا، أن نمسح دموعهم ونهدئ من روعهم.
أي قرية هذه؟ وليس بوسعنا حتى أن نربت على أكتافهم وأن نمد أيدينا نحوهم، وأن نتقاسم معهم كسرة خبز، ونركض وإياهم صوب الأمان.
أي قرية هذه؟ ونحن نشاهد ونسمع ونتجرع المرار على مدار الساعة!
وطال الحداد!
احتلال، وإخلاء وإرهاب، ودمار شامل أتلف المعمور، أجلى عدداً ونهب حياة أعداد أخرى، إجرام بالصوت والصورة، تعذيب مدو أمام أعين الناظرين، تمرد على الإنسانية، حوّل العالم إلى غابة شرسة، يتغذى الإنسان فيها على بعضه البعض ويتلذذ.
فيروس قاتل تناقل من بلدة إلى الثانية، تفرع في الأحياء، في الأزقة، تهجم على البيوت الصغيرة الدافئة والحدائق المزركشة.
تبجح وسط نافورات المدن وصار يعانق المارة شيوخاً تارة، وشباباً وأطفالاً تارة أخرى، حصد أرواحاً هنا وزرع شجناً هناك، التهم الأخضر واليابس ولم يخلف وراءه غير الأسى ووجع الفقد.
وما أشأم الفقد، وما أصعب وجعه على هيئة أشخاص جاء أو أوطان، مؤلم هو في كل حالاته، يعذب الفاقد أكثر من المفقود، ويحتل الصدارة في القدرة على الإلقاء به في دوامة الأسى، فيصعب إخراجه منها!
وطال الحداد!
اجتفت المقل وأدميت القلوب، وباتت العبرات تخجل أن تطل من شرفات ذبل حشيشها وتبخر عبيرها.
ما الحل إذاً؟ وهنا اضطراب أمني يغلف الكوكب، يفجر في زرقته سواداً ويهلع معمروه!
ما الحل؟ وهنا اغتصاب جلي لحق الحياة في واضحة النهار!
ما الحل يا سادة؟ وهنا ترمل وتيتم وطرد وهروب مستمر!
ما الحل إذاً؟ ما الحل وقد طال بنا الحداد؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.