موجات الجاذبية والتنقل عبر الزمن

فيما البشر منغمسون في لحظتهم الحالية يمارسون أعمالهم اليومية كالعادة يلتحم ثقبان أسودان على مقربة من الأرض، وتبدأ موجات الجاذبية بالوصول إليهم، فمع وصول أعلى قمة تعود الحياة والكرة الأرضية ملايين السنين إلى الوراء؛ حيث الديناصورات تجول في كل مكان، ومع وصول قاع الموجة نقفز ملايين السنوات نحو المستقبل،

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/12 الساعة 01:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/12 الساعة 01:45 بتوقيت غرينتش

ربما كان رصد موجات الجاذبية التي سجلها مرصد (LIGO) قبل سنة تقريباً (حين التحم ثقبان أسودان على بُعد ما يقرب مليار سنة ضوئية) أحد أهم الإنجازات العلمية في القرن الواحد والعشرين (لا ينافسه على هذه المكانة إلا ربما رصد جسيم "هيغز بوزون" في مسارع LHC قبل ذلك بثلاث سنوات، والذي تم بناء عليه استكمال رصد كافة عناصر نظرية النموذج المعياري للجسيمات الأولية)، ولا تنحصر أهمية اكتشاف موجات الجاذبية على تأكيد صحة نسبية أينشتاين (في مجال الفيزياء)، ولكن نتائجها تتجاوز ذلك إلى تأكيد تبعيات هذه النظرية المتعلقة بطبيعة الواقع المحيط بنا، وبالتحديد ماهية الزمان والمكان.

بناء على نظرية النسبية يشكل المكان والزمان كينونة واحدة يشار إليها بـ"الزمكان" أو Space – time، ومن خصائصها قابليتها للتقعر حول الأجسام حسب ثقلها (الجاذبية)، وكذلك التذبذب بشكل موجات بنفس الطريقة التي يهتز فيها ماء بحيرة عند إسقاط حجر على سطحها، وبالتالي فإن موجات الجاذبية التي تم رصدها هي اهتزازات في نسيج الفضاء الزمني، وليست محدودة بالبعد المكاني، وما يعنيه هذا أن التذبذبات التي تم رصدها وعرضها على الشاشات تمثل قفزات زمانية بين الماضي والمستقبل، وإن كانت ضمن حدود زمنية ضيقة جداً لا يمكننا إدراكها، وذلك لبعدنا الهائل عن المصدر، ولكن وبشكل واقعي، فإنه عندما تعرضنا لهذه الاهتزازات تذبذب وجودنا عدة مرات بين الماضي والمستقبل، ولو خلال أجزاء بسيطة جداً من الثانية!

إذا افترضنا أن الكرة الأرضية كانت مجاورة لمركز الحدث (ولنقُل على حافته) لحظة التحام الثقبين الأسودين، فإن تأثير موجات الجاذبية المتجهة تجاهها سيكون مضاعفاً ملايين المرات بحيث يمكن تمثيله بالصورة التالية (من وجهة نظر شخص يراقب الكرة الأرضية من مسافة بعيدة):

فيما البشر منغمسون في لحظتهم الحالية يمارسون أعمالهم اليومية كالعادة يلتحم ثقبان أسودان على مقربة من الأرض، وتبدأ موجات الجاذبية بالوصول إليهم، فمع وصول أعلى قمة تعود الحياة والكرة الأرضية ملايين السنين إلى الوراء؛ حيث الديناصورات تجول في كل مكان، ومع وصول قاع الموجة نقفز ملايين السنوات نحو المستقبل، ثم تستمر التذبذبات، ولكن بفروق زمنية أقل تتأرجح الكرة الأرضية خلالها بين الماضي والمستقبل مئات الآلاف، ثم عشرات الآلاف، ثم آلافاً ثم مئات ثم عشرات السنين حتى نعود إلى الزمن الراهن الذي كانت عنده عندما تتلاشى الموجات.

هذا ليس خيالاً علمياً أو وهماً، بل إحدى تبعيات إثبات نظرية أينشتاين للنسبية العامة، وهو ما يحيلنا إلى فهم مختلف تماماً لماهية الزمان، وبالتحديد مفهوم تدفق الزمان الذي طالما افترضنا أنه مثل سهم ثابت السرعة يتجه من الماضي إلى المستقبل، تتمحور حوله الأحداث ويتدرج بناء الواقع، في حين أن نسبية أينشتاين تنكر وجود هذا التدفق أصلاً وتقدم تصوراً بديلاً؛ حيث محور الزمن وكل ما يرتبط به من واقع وأحداث هو قائم أصلاً (كأي محور مكاني) يوجد ويتزامن فيه الماضي والحاضر والمستقبل في بناء رباعي الأبعاد، وبمعنى آخر فإن ما حدث ويحدث وسوف يحدث في أي مكان في الكون هو كائن فعلاً، وليس هناك ما يميز لحظة زمانية عن أخرى، ولكن محدودية وعينا البشري تفرض علينا تلقي الواقع بتدرج زماني، وكما قال أينشتاين نفسه: "إن الذين يؤمنون بالفيزياء يدركون أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل هو وهم ملحّ وعنيد".

بطبيعة الحال، يثير مثل هذا الطرح العلمي كثيراً من التساؤلات الفلسفية، لعل أهمها متعلق بموضوع الإرادة، فإذا كان المستقبل موجوداً فعلاً فما هو دور الإرادة البشرية، بل هل الإرادة فعلاً موجودة؟!

شخصياً وفي سبيل تجنب هذا الشكل من الحتمية الوجودية أفضل اللجوء إلى نظرية علمية موازية هي ميكانيكا الكم، التي ينص ما يسمى "تفسير كوبنهاغن" لها على أن الواقع المادي هو موجة احتمالات (أثيرية) لا يتجسد في شكل وموقع محدد إلا عند رصده، ومن هذا المنطلق أميل إلى الاعتقاد بأن المستقبل -إذا كان موجوداً حسب نسبية أينشتاين- فإنه موجود في شكل موجات احتمالية تحمل في طياتها مختلف الخيارات التي تثبتها خيارات الأفراد، ولعل لهذا ليس بعيداً عن قوله سبحانه وتعالى: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد