التحرش هتك لمقاصد الإسلام

كما على الأسرة والمؤسسات التعليمية والتثقيفية والإعلامية أن يقوموا بإعادة صياغة ومراجعة منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع وقويمها، بعد أن أصبحت مشوهة، مما أدى لتشوه المجتمع وظهور تلك الآفات الأخلاقية الخطيرة، التي تؤدي إلى فساد المجتمع وتكدير أمنه وسلمه وهدم البنية الأخلاقية له.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/10 الساعة 23:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/10 الساعة 23:19 بتوقيت غرينتش

حرصت الشريعة الإسلامية أن تقيم مجتمعًا مستقيمًا يعيش أفراده في سلام نفسي ومجتمعي، ليحققوا الغاية العظمى من استخلاف الله لبني آدم في الأرض، ألا وهي التعبد إلى الله بعمارة الأرض، ولذا كانت المقاصد العليا للشريعة الإسلامية والتي تمثلت في حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، هي الغايات التي جاءت التشريعات والعبادات من أجل تحققيها لكي تستقيم حياة العباد في أمور دينهم ودنياهم وتتحقق مصالحهم.

وقد أرسى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلك المقاصد العليا للشريعة الإسلامية في خطبة الوداع عندما قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال: "اللهم هل بلغت.. اللهم هل بلغت".

ولكن يأبى بعض شياطين الإنس إلا أن يهتكوا مقاصد الشريعة من أجل إشباع شهوة شيطانية يفسدون بها في الأرض، وجرفتهم شهواتهم المحرمة إلى الاعتداء على النساء والتحرش بأعراضهن بالكلام تارة وبالنظرات تارة وبالجسد تارة أخرى.

وعن هذا الصنف من حيوانات البشر أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن كثرة المتحرشين وانتشارهم في المجتمع من علامات الفساد في آخر الزمان، فقال وهو الذي لا ينطق عن الهوى: "والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيرهم يومئذ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط". وفي حديث أخر قال عليه الصلاة والسلام وعلى آله: "ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة"، وفي حديث ثالث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطرق تسافد الحمير، قلت : إن ذلك لكائن؟ قال: نعم ليكونن". ومعنى يتسافدوا في الطريق، أي: يزني الرجل بالمرأة في الطريق. ومثله التحرش والاغتصاب.

ولم يتركنا الله سبحانه وتعالى ولا نبيه المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتقاذفنا أمواج الشهوات، بل وضع الشرع الشريف محاذير وقطع كل السبل التي قد تؤدي إلى انتهاك الأعراض فأمر الرجال والنساء على حد سواء أن يغضوا أبصارهم ولا يطلقوها هنا وهناك للبحث عما يثير غرائزهم، وجاء تحريم الملامسة وكل ما يثير الغرائز، فقال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، وقال كذلك: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).

فحتى لو تعرض الرجل لغوايه امرأة أو العكس فعليه أن يغض بصره أو يكبح جماح شهوته، وغض البصرة مفهومه أوسع من مجرد النظر إلى مفاتن النساء، بل يتسع ليشمل كذلك سماع ما يثير الشهوة أو تخيله أو الحديث عنه، ولا عذر لرجل أو امرأة أن أحدهما قد أثاره أو حرك كوامنه، فكل نفسٍ بما كسب رهينة، وعلى كل عبد سواء رجل أو امرأة أن يقوم بما عليه ويلتزم بأوامر الله بأن يكون يوسفي الفعل مثلما فعل سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، يقول تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

ومثلما أمر الله سبحانه وتعالى الرجال بغض البصر والوقوف عند حدود الله وعدم التعرض للنساء بنظرة أو بكلمة أو بفعل حتى وإن كانت المرأة مقصرة، أمر النساء كذلك بالبعد عن عوامل الإغراء وإثارة شهوات الرجال، لأنها علاقة ثنائية متبادلة فيجب أن يقوم كل طرف فيها بواجبه، فقال تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)، وقال تعالى: (لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى).

ويعد التحرش جريمة مقيته يسعى مرتكبها إلى الإفساد في الأرض، وقد توعد الله سبحانه وتعالى المفسدين في الأرض بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: (إنمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). فأصبح بذلك التحرش ضمن جرائم الحرابة متكاملة الأركان التي تضم هتك الأعراض وإرهاب النساء وتكدير السلم المجتمعي وإثارة الرعب في المجتمع وغيرها.

وجريمة التحرش يجب أن يشترك في ردعها المجتمع كله بمؤسساته وهيئاته وأفراده .. فعلى المسؤولين والمشرعيين أن يسنوا من العقوبات ما يكون رادعًا لهؤلاء المجرمين، فعقوبة التحرش لم ينص عليها في الشريعة بعقوبة محددة، لذا فقد ترك تقدير العقوبة تعزيرًا إلى الحكام، يقول الإمام الشيرازي الشافعي في كتابه "المهذب": "من أتى معصية لا حد فيها، ولا كفارة كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز، أو القذف بغير الزنا، أو الجناية التي لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي، عزر على حسب ما يراه السلطان".

والأهم من ذلك أن تقوم الهيئات البحثية ببحث تلك الظاهرة التي انتشرت في مجتمعاتنا والتطرق لأسبابها والتعمق في تحليلها للوصول إلى رؤية كاملة وشاملة لمعالجة جذور تلك الظاهرة.

كما على الأسرة والمؤسسات التعليمية والتثقيفية والإعلامية أن يقوموا بإعادة صياغة ومراجعة منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع وقويمها، بعد أن أصبحت مشوهة، مما أدى لتشوه المجتمع وظهور تلك الآفات الأخلاقية الخطيرة، التي تؤدي إلى فساد المجتمع وتكدير أمنه وسلمه وهدم البنية الأخلاقية له.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد