في مثل هذه الأيام قبل عام، كنت على سفر، فأخبرني إخوتي بمرضه، وهمسوا إليَّ بدنو أجله.
على مهل أقرب إلى اللكاعة، رتبت أمري وحزمت حقيبتي ذاهباً إليه، لكني حين وصلت أدركت أني تأخرت.
وجدت أبي ممدداً على فراشه، مسجى في ردائه، حائرة روحه بين الحياة والموت.
عرفته ولم يعرفني، ناديته فلم يسمعني، فتحت عينيه قسراً لكنه لم يرَني، قبَّلت يديه وعلى غير عادته لم يدعُ الله لي.
جلست إلى جواره، وأنفاسه تؤلمه ذهاباً وإياباً، والعجز يقتلني، ما أصعب أن تجاور مريضاً يتألم ولا تملك من دوائه شيئاً، فكيف إن كان هو الأب؟!
في حياته.. كان أبي يكره الذهاب إلى الطبيب، لكني أصررت على إحضاره، قلَّب في جسده النحيل، ثم قال لنا: "لا تبهدلوه"، وتلك إشارة فُهم منها أن الأجل قد اقترب، وأن الروح صاعدة إلى باريها.
كان أباً لستة أولاد وبنتين، كافح طوال عمره فلاحاً يكسب باليد والكد، لم يتعدَّ آخر دخل شهري له في تسعينات القرن الماضي ثلاثمائة جنيه، لكن ضيق الحال لم يدفعه يوماً للطمع فيما ليس له، كان يفخر أمامنا دوماً بأنه ربّانا بالحلال، وأن قرشاً واحداً حراماً لم يتسلل إلى جيبه.
كان أبي بسيط الأحلام، زاهداً في دنيا الناس زُهداً يحيرني حين أبحث له عن هدية، إذ كل الأشياء عنده سواء، تبرها كترابها وثمينها كحقيرها، ما دامت تؤدي الغرض.
كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، لكنه شديد المعرفة بالله، معرفة لا عن علم، بل عن تقوى، قيل لنا مراراً إنه ممن ترى فيهم "واتقوا الله ويعلمكم الله".
حفظ كثيراً من آيات القرآن، لا من مصحف بل من مذياع، مذياعه الذي لم يتمايل مؤشره يوماً عن إذاعة القرآن لعقود، فتمكن في خريف العمر من ترديد الآيات كحافظيها.
بعد تخرجي ألح عليَّ إخوتي في الشروع بخطوبة ابنة رفيق دربه، تقدمت إليها، وبعد وقت عزمت على الفراق، خوفني إخوتي من ردة فعله، "أبوك هيموت فيها".. هكذا قالوا.
تجاسرت وأخبرته أنا، فلم يزِد إلا أن قال لي: (وعسى أن تكرهوا.. وعسى أن تحبوا).
أخبرني إخوتي أنه قبل وفاته بشهور، كان يدعو الله ألا يثقل عليه المرض، وأن يجعل ختام حياته على ثلاثة أيام: يوم نزاع، ويوم وداع، ويوم لقاء رب كريم.
تحقق مراده وأُجيبت دعوته، فمرض الثلاثاء بشدة، وودعنا الأربعاء بين حياة وموت، وفي الخميس لقي الله، جئته الأربعاء، فكان في السكرات، والآن أسأل نفسي ماذا لو أني جئت على عَجَل، بدل أني جئت على مهل؟ ماذا لو أني أسرعت الخطى إليه بدل أن تثاقلت عليه؟
في حياة كل منا مواقف ولحظات، مستقلة بذاتها، ما بعدها ليس كما قبلها، وحضورنا فيها ليس كغيابنا، وما يمضي فيها يفوت، وما نفقده فيها أبداً لا يعود.
وإذ يقال إن الندم ينفع أحياناً، أقول لك إنه كثيراً ما لا ينفع، فمن كان له أبوان أو أحدهما فليكرمه، قبل الندم حين لا ينفع الندم.. أنا آسف يا أبي.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.