هذا الرجل واجه انقلاب تركيا عبر 90 ألف مئذنة.. هنا قصته الكاملة وكيف فعل ذلك

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/06 الساعة 17:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/06 الساعة 17:42 بتوقيت غرينتش

في ليلة 15 يوليو/تموز 2016، كانت المساجد التركية أبرز نجوم مواجهة الانقلاب العسكري الذي كان يحاول تثبيت أقدامه.. رسالة نصية قلبت الموازين وجنّدت 120 ألف خطيب لإخراج الناس إلى الشوارع، ولكن القصة أكثر إثارة في تفاصيلها.. هل تحب سماعها من صاحبها؟

التقينا صاحب الفكرة، الدكتور محمد غورماز، رئيس الشؤون الدينية في تركيا (بمرتبة وزير)، وحكى لنا القصة كاملة لما جرى ليلة محاولة الانقلاب وكيف أدار المشهد مع خطبائه.. ولم يتوقف الحديث هنا، فقد أسهب كذلك في شرح خطط علماء الدين في تركيا فيما اعتبروه مواجهة جماعة غولن تركيا، كما أخذ يقدم لنا أدلته التي يراها على انحرافات جماعة غولن.

اللقاء جرى على هامش اجتماع مجلس شورى علماء الدين في تركيا الذي انعقد في أنقرة وأصدر عدداً من القرارات التي اتخذها الشيوخ بالإجماع، وكلها تنصب على إجراءات لمواجهة جماعة غولن فكرياً وضمان عدم نفاذهم إلى قطاعات الشباب في تركيا.

ولنبدأ معه القصة..

يقول غورماز لـ"عربي بوست" إنه حصل ليلة 15 يوليو/تموز على معلومات تفيد بأن هناك تحركاتٍ من الجيش لتنفيذ عملية انقلاب.

وأضاف أنه سأل حينها نفسه كرئيس للشؤون الدينية حول ما يمكنه "أن يقوم به من أجل شعبه ومستقبل أمته"، وأمام العدد الكبير للمساجد وموظفيها، حيث بلغت 90 ألفاً، يعمل بها أكثر من 100 ألف من الأئمة والخطباء والمؤذنين، خطرت بباله ذكرى من الطفولة.

عندما كان غورماز طفلاً يبلغ الـ12 من عمره بدأت حرب قبرص التي شاركت فيها تركيا بعد دعم اليونان للانقلاب على نظام الحكم في الجزيرة، وكان أبوه حينها إماماً للمسجد. اجتمع الناس حول الإذاعة لمتابعة الأخبار، لكن الأب طلب من غورماز الصعود الى المئذنة والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) بأعلى صوته، ثم دعوة الناس بعدها للاجتماع داخل المسجد.

وأكد الرجل الذي صار الآن رئيساً للشؤون الدينية في البلاد أن نجاح ما قام به حينها في جمع الناس هو الذي دفعه لأن يقوم به مجدداً ليلة المحاولة الانقلابية، "فهو تقليد من تقاليد الدولة العثمانية، التي كان أئمتها يساهمون الناس أفراحهم وأحزانهم بالصلاة والسلام على النبي في المآذن والمساجد".

وقام غورماز ليلتها، بعد استشارة أردوغان وموافقته، بكتابة رسالة قصيرة على الهاتف وإرسالها لأكثر من 120 ألف موظف تابع لرئاسة الشؤون الدينية في كل مدن وقرى تركيا، طلب فيها فتح المساجد وجمع الناس داخلها والصلاة والسلام على النبي، وهو ما تم بالفعل.

ويُفسر استجابة الناس لدعوة المساجد بأنهم "كانوا بحاجة إلى قوة معنوية، وحينما سمعوا الأذان في تلك الأوقات الضيقة استجابوا الدعوة، ثم إننا لم نكتف بالصلاة والسلام على النبي فقط، بل دعونا الشعب للميادين ليحافظوا على حقوقهم والوقوف مع الشرعية".

في البداية، لم يفهم المواطنون في القرى ما كان يقع، حيث فاجأهم الأذان والصلوات، لكن الأئمة أخبروهم بالذهاب إلى المحافظات القريبة من قراهم، وهو ما استجابوا له.

الأذان يوقف الانقلابيين

ويقول غورماز بارتياح ظاهر على محياه إن من المفارقات التي وقعت ليلة 15 يوليو نجاح الأذان والمساجد في إيقاف الانقلابيين، "لقد عشنا 4 انقلابات عسكرية كلها أوقفت الأذان، لكن هذه المرة هو الذي أوقف الانقلاب".

ويشير إلى أن أحد جنرالات الطيارين الانقلابيين كان يصرخ وهو فوق الأرض بأنه يجب إسقاط المساجد، "لكنها هي التي أسقطته وأوقفت انقلابه بأئمتها ومؤذنيها، فالصلاة تعني الرحمة والسلام والسلم"، على حد تعبيره.

لكنه يذكر أن بعضاً من الأئمة الذين وصلتهم الرسالة كانوا من أتباع الجماعة والموالين للانقلابيين، حيث قام واحد منهم في إحدى المدن التركية بقطع الكهرباء حتى لا تتم دعوة الناس إلى الخروج ضد الانقلاب. ويضيف أن الرئاسة قامت بطرد هؤلاء بعدها.

جماعة غولن

أصبحت جماعة الخدمة التي تعرف بالكيان الموازي في تركيا منظمة إرهابية بالنسبة لقانون البلاد، كما اتهم أتباعها بأنهم يعتمدون التقية لإخفاء معتقداتهم "التي لا تمت للإسلام بأي صلة"، لكنها كانت تقدم نفسها إلى عهد قريب جداً كحركة تربوية وسلمية يُوصف أفرادها بالإسلام المعتدل، هذا التحول الكبير والسريع شوش فهم كثير من المتابعين للشأن التركي، سواء داخل البلاد أو خارجها.

ولطالما قالت الحكومة التركية، بعد انفجار أزمتها مع جماعة كولن عام 2013، إن الحركة تعمل بشكل سري وتتبع أموراً لا علاقة بالإسلام، ما أثار الكثير من التساؤلات عن الطريقة التي قامت بها السلطات بتحديد أسماء المنتمين إليها.

ورداً على علامات الاستفهام هذه، يقول غورماز إن رئاسة الشؤون الدينية كانت تعمل على الموضوع منذ 3 سنوات، "وليس نتاج يوم أو يومين فقط، حيث عملنا بحوثاً ودراسات واطلعنا على 100 كتاب و500 شريط و5000 صحيفة لهذه الجماعة، كما استمعنا أيضاً لإخوان غولن وأكثر من 10 من أصدقائه الذين عاشوا معه 30 سنة، قبل أن يتركوه ويأتوا إلينا".

ويضيف أن نتيجة تلك الأبحاث التي قام بها مجلس الشؤون الإسلامية العليا وشؤون الفتوى أوضحت أن أتباع الجماعة "يصرون على أنهم مهديون، كما يقولون إن زعيمهم لا يمكن أن يتحدث عن شيء بدون لقاء مع النبي، وقد استمعت شخصياً إلى المئات منهم يقولون إنه يمثل نبياً أو صحابياً، ويتصرف كأنه يذهب إلى مكة"، على حد قوله.

وأكد أن العلماء "درسوا كل تلك الأدلة ووجدوا أن هذه الحركة حركة منحرفة أضرت بالإسلام والمسلمين، كما أنها حركة أباحت المحرمات وحرّمت المباحات، والأدلة على ذلك كثيرة".

وشدد غورماز على أن تركيا، وطوال تاريخها، تعتمد منهجاً معتدلاً في الإسلام، "لا نكفّر ولا نضلّل ولا نفسّق، ونرفض من يقوم بذلك، لكن بعيداً عن الإفراط والتفريط".

وأشار إلى أن رئاسة الشؤون الدينية كانت قد طردت قبل المحاولة الانقلابية أكثر من 1000 خطيب، بعد الاستماع إليهم والتأكد من أنهم ينتمون إلى الجماعة ويؤمنون بفكرها.

ما الأدلة؟

وعن ضرورة نشر شهادات أولئك الخطباء وأسمائهم من أجل إثبات "انحراف فكرهم"، يقول غورماز إنه يمكن الرجوع إلى تسجيلات ما يقوم به الشخص الذي يتكلم يومياً في أميركا، في إشارة إلى زعيم الحركة فتح الله غولن، "وقد تقدم أحدهم في تركيا للمحكمة مطالباً بمحاكمة الرجل لأنه يدعي أنه المهدي المنتظر ويضل الناس ويغشّهم".

وأضاف أيضا أنه يُمكن العودة إلى ما كتبته لجنة من القضاة بمدينة سكاريا، شمال غرب البلاد، دفاعاً عنه، "حيث كتبوا 500 صفحة ليدافعوا على أنه المهدي، وبأنه يلتقي يومياً مع رسول الله وأحياناً يلتقي مع جبريل، وهذا مسجل على وثائق قضائية".

غورماز أوضح أيضاً أنه تم جمع الكثير من الأدلة بعد المحاولة الانقلابية، حيث "حصلنا على إفادات من العسكر التابعين له، وهم أيضاً يعترفون بهذا".

"أين كنتم قبل اليوم؟"

ومع كل ما تقدمه السلطات التركية، على المستوى الديني والعقدي، لإثبات ما تعتبره انحرافاً لجماعة الخدمة عن الإسلام المعتدل، يطرح البعض السؤال عن أسباب تأخر رجب طيب أردوغان وحكومته في محابتها، خصوصاً أنهم كانوا في وقت سابق يكوّنان أقوى حلف إسلامي في التاريخ الحديث لتركيا.

وفي هذا الصدد، يقول غورماز إنه ذهب إلى أردوغان قبل سنوات حينما كان رئيساً للوزراء بعد أن بدأت المشاكل تظهر بين الجماعة والدولة، "وقلت له إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"، في محاولة منه لحل الأزمة قبل أن تكبر.

ويضيف أنه طلب من رواد جماعة الخدمة أن يجتمع 10 من كبارهم من جهة، و10 من رؤساء الشؤون الدينية من جهة أخرى، للاجتماع ومناقشة المسائل الخلافية، "وقد تحدث أنا شخصياً مع الحكومة، وقال لي الرئيس في البداية إنه لا يمكن أن يعترض على قول الله سبحانه وتعالى".

ورغم موافقته على النقاش بين الفريقين وقبوله بالصلح والسلم في حالة وقع اتفاق حوله بينهما، إلا أن أردوغان نبه غورماز إلى أن تلك الحركة "لا يمكن أن تقرر بنفسها؛ لأن وراءها قوى أخرى، ولها صلات بجهات خارجية"، على حد قوله.

الاتفاق على الصلح

وأفاد غورماز بأن الاجتماع الذين كان بين الفريقين نتج عنه 3 مبادئ: الأول يؤكد أن الحركة التي بدأت كحركة دينية وأُسست بالزكاة والصدقة قبل أن تصبح منحرفة، ستبقى دائماً حركة دينية إسلامية إصلاحية تعليمية مفتوحة.

أما المبدأ الثاني فيلزم أتباع الجماعة الذين يوجدون داخل الدولة وإداراتها، باحترام دستور البلاد ونظامها، فيما يعتبر المبدأ الثالث الدعوة التي أقامها غولن على الحكومة خطأً، وستسقط بمجرد إعلان الصلح.

غير أن غولن، حسب شهادة غورماز لـ"عربي بوست"، رفض المبادئ التي خرج بها الحوار بين الطرفين، وقال إنه لا يمكن أبداً أن يقبل بها، ليبدأ بذلك الجدال الكبير بين الجماعة والدولة.

التأخر في التعامل مع الجماعة

ومن جانب آخر، يعترف غورماز بتأخر السلطات التركية في التعامل مع الجماعة بحزم أكبر، لكنه برره بعدم رغبة أردوغان في الانشغال بأمور داخلية في وقت وصلت فيه الأزمة داخل سوريا والعراق ومصر ذروتها.

وصرح بأن أردوغان قال له بعد أن ناقش موضوع الجماعة معه إنه "يجب أن يُصلح بطريقة سلمية، حيث إنه لدينا أشغال كثيرة، إخواننا في العراق وسوريا ومصر عندهم مشاكل كبيرة وأنا لا أريد أن أنشغل بالفتنة الداخلية، وعلينا أن نهدّئ ونُسكت هذه الفتنة، هذه فتنة كبرى تشغلنا عن عملنا وتقطع علاقاتنا مع إخواننا في العالم"، على حد تعبيره.

وأكد أن الرئيس التركي يملك منذ 2009 معلومات كثيرة عن خطورة الجماعة، "لكنه ركّز على طريق سلمي لإسكات الفتنة الداخلية في هذا البلد، غير أنهم لم يقبلوا هذا، وحاولوا أن يقتلوه وافتروا عليه ودخلوا إلى بيته ومسكنه"، كما يقول.

ماذا بعد الجماعة؟

جماعة الخدمة كانت في الأصل حركة صوفية، لكنها بطريقتها الخاص تمكنت مع مرور الزمن من السيطرة على مناصب حساسة داخل أجهزة الدولة، وأمام أعين الحكومة في كثير من الأحيان، كما أنه لم يتم الالتفات إلى خطورتها إلا منذ سنوات قليلة، ما يثير المخاوف من أن يتكرر الأمر مجدداً مع الحركات الصوفية الأخرى.

لكن الأمر ليس بتلك السهولة كما يراه غورماز، فجماعة الخدمة تحولت لقوة عالمية ولا يمكن أن ترى حركة سرية في هذا العصر مثلها، "كما أننا لا يمكن أن نقبل تلك الأفكار إسلامياً من الطرق الصوفية والجماعات الأخرى".

أما عن "تورّط" السلطات في تقوية جماعة الخدمة، فيؤكد أن أردوغان اعترف بذلك وقال خلال مجلس شورى رئاسة الشؤون الدينية إنه يتوب إلى الله ويرجو من شعبه أن يعفو عنه ويسامحه على التقصير "لأننا قلنا إنهم رجال مؤمنون ويسجدون لله، ونحن شاركنا معهم بنية خالصة بينما كانت عندهم نية أخرى".

ونبه غورماز إلى أن جماعة الخدمة كانت ضد الإسلاميين، فهم وقفوا ضد أربكان ومع العسكر وبولند أجاويد، وهو رئيس وزراء تركي سابق حاول خلال فترة التسعينات استئصال الإسلاميين الذين كان يُمثلهم نجم الدين أربكان، زعيم الإسلام السياسي في تركيا ورئيس الوزراء الذي انقلب عليه الجيش عام 1997.

علي جمعة ومذبحة رابعة

الأحداث الكبرى لا ينساها التاريخ، كما لا ينسى أبداً أولئك الذين كانت لهم يد أو دور فيها، وكل ما يحدث هو أنهم يُمهلون في بعض الأحيان بعضاً من السنوات حتى يظهر كيف كان دورهم فيها، ولو من خلال شهادات أحادية لأشخاص كانوا أيضاً طرفاً في ذلك.

هذا باختصار ما وقع مع علي جمعة، مفتي الجمهورية المصرية السابق، الذي كشف غورماز لأول مرة في حواره مع "عربي بوست" عن وجود علاقة بينه وبين جماعة فتح الله غولن.

"حينما بدأ العسكر في قتل الناس برابعة، اتصلت بجمعة وقلت له يا شيخ أين العلماء؟ أينك وشيخ الأزهر؟ ماذا تفعلون وماذا نعمل؟!"، هكذا بدأ رئيس الشؤون الدينية التركية قصة نهاية علاقته مع علي جمعة.

وأضاف أنه اتفق مع الشيخ المصري على اللقاء في العاصمة الأردنية عمّان لأجل مناقشة دور العلماء في السلم والصلح بين الحكومة المصرية والانقلابيين والشعب، لكن جمعة طلب اللقاء من أجل إخباره بـ"أمر مهم".

وبعد 15 دقيقة من الاتصال الهاتفي بين غورماز وجمعة، اتصل هذه المرة الرجل الثاني في حركة الخدمة، واسمه مصطفى أوزجان، وكان واعظاً في رئاسة الشؤون الدينية ومقيماً في الخارج، ليخبر غورماز بأنه سمع عن لقائه المبرمج في عمّان.

وقال غورماز إن أوزجان اقترح عليه أن يلتقي به في إسطنبول قبل السفر إلى عمّان، أو الذهاب رفقته إلى اللقاء مع جمعة. وعندما سأله كيف عرف بهذا المقابلة؟ قال له رجل غولن إن علي جمعة اتصل به وأبلغه بطبيعة زيارة الأردن وتفاصيلها.

وأضاف رجل الدين التركي أنه تقابل مع أوزجان في إسطنبول، حيث قال له إن موقف الحكومة التركية ووزارة الشؤون الدينية من الانقلاب في مصر موقف خطير، كما مدح أوزجان وزير الدفاع المصري آنذاك عبدالفتاح السيسي، وقال إنه رجل مؤمن وصالح، وإن جماعة الخدمة تعرفه جيداً، كما أن فتح الله غولن أيضاً يعرف السيسي وله صلة قوية به.

ويؤكد غورماز أنه من حينها لم يتواصل مع علي جمعة، بعد أن اكتشف علاقته بجماعة الخدمة.

الفرق بين الإخوان والخدمة

عكس قاعدتهم العامة التي رحبت بالانقلاب العسكري بتركيا في ساعاته الأولى، إلا أن بعض معارضي جماعة الإخوان المسلمين المصرية يستغلون فشلها ليقولوا إنه لا فرق بينها وبين جماعة الخدمة، وليُبرروا بذلك ما قام به السيسي من اعتقالات في صفوفهم، لكن رئيس الشؤون الدينية التركية يرى عكس ذلك تماماً.

ويرى أن الإخوان يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا بعض الأخطاء في تاريخهم، ولكنهم أسسوا عملاً سياسياً واجتماعياً معلناً وذهبوا للشعب وطلبوا منهم، عكس جماعة غولن التي قامت بإدخال شبابها الجيش، "ليؤسسوا جيشاً آخر تحت سيطرة هذه الحركة، وفي 15 يوليو حاولوا أن يقتلوا رئيس الدولة وحاولوا أن يقتلوا الشعب.. يعني في الحقيقة لا يمكن أن نقيس بين هذين الحركتين".

تحميل المزيد