هأنا أكتب إليك الليلة لأنني وحيد، ولأنه كُتب عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى، منفى الوطن ومنفى الحب، الليلة حلمت لو أن أنا وأنتِ على باب بيت لا يتسع لغيرك، كلانا كان أعمى البصيرة، الآن كم يلزمنا من السير وحيدين لنجتمع؟ كم يلزمني من الوقت لأنتصر على سجاني؟! كم يلزمنا من الفقد لأمتلكك؟! كل ما أريده فقط أن أتكور على نفسي وأعود إلى ذراعيك، أنتِ لا تصدقيني أليس كذلك؟ أنتِ ما زلت تؤمنين بالقضية..
قضية الوطن الذي يدمر كل ما نحبه بعناية، قضية الشعب الذي يعيش على فتافيت خبز، فتافيت أمل، فتافيت وطن، شعب أقنعوه أن كل طرف خطر على الوطن أو الدين أو المجتمع، أنتِ لا تعلمين شيئاً عن "هنا"، الإعدام هنا أخف عقاب! أنتِ لا تؤمنين مثلي بأن الجميع مذنبون، كل فرد في الشعب يمارس في نفسه هوى السلطة، يقترن بالجهل أكثر منه إلى المعرفة، وأنا وأنتِ لا نستطيع تغيير شيء..
الليلة سألت نفسي ماذا أحتاج في هذا الوطن، ثم أجبت: أنت.. عن الدفء الذي لا أجده سوى في فنجان قهوة في ليلة شتوية وأنا معكِ، عن الرضا بالقليل، والحضن الذي يتسع للكون، وعن البكاء بين ذراعيك، عن النظر إلى عينيك التي أرى بها أجمل وأعظم لحظات حياتي! النظرة بعينيكِ بمئة سنة في المعتقل، لقد خطفتِ مني كما سلب حلم الوطن، وأنتِ الوحيدة التي تعيدي إليّ شعوري بإنسانيتي مجدداً، أعلم أن ليس لكِ من الأمر شيء، وأنكِ تدافعين عن قضيتي بكل قوتك التي أعرفها عنك، ولكن يؤرقني أننا لم نتخفف من هذا العالم، لو أن الحاكم يسمح لنفسه بين حين وآخر أن يكون فقط أكثر عدلاً..
الآن أدركت متأخراً أن الوطن هو أنتِ، الأسرة الصغيرة هي بداية الوطن، نعم لم أفهم تلك العلاقات الأسرية إلا الآن، أنت بداية الوطن لرجل في الحرب يبحث عن هدنة، أو رجلك الذي خسر القضية، وأنتِ تمثلين وطنه الصغيرة، وطن بلا ذاكرة، كل ليلة أعيد نفس السؤال كيف يمكن أن للحياة أن تكون قاسية هكذا؟
لقد شاخ الوطن وكثرت تجاعيده، كل شيء على هذه الأرض حلم، والأحلام تخدعنا كل حين، قريباً سأسلم أمانة التراب إلى التراب، نحن أبناء الأرض، سيفتح لنا القفص بعد يومين، هؤلاء الذين أرادوا أن يكونوا شيئاً، يعتريهم الليلة الشعور بالوحدة والخوف من المجهول، أعترف الآن، بأني ما زلت لا أحسن الخشونة التي تفرضها حياة السجن، ما زلت ممسكاً على حبك قابضاً عليه، وسأبقى صامداً بهذا الحب، فليباركك الله من أجل تلك القضية التي آمنتِ فيها بشخص بائس مثلي، أليست لحظة -كهذه- كافية في حياة الإنسان؟
أما عن لحظة الموت الأسوأ. عندما أغلق عيني على هذا العالم الذي بين ذراعيك، على هذا الجمال، ونعمة الله، فهذا يعني أنك أبداً لن تعودي ثانية.
يقولون إن العالم الآخر أكثر جمالاً، هل هو كذلك؟ الليلة قمت بتشكيل ذاكرتي من جديد، لا كما أرادتها خشونة السجن والسجان، ولكن بتلك المشاعر التي لا تخطئ، أريد أن أعيد كل الأشياء إلى عفويتها، كم مرة قتلوني وكم مرة مت..
ولكن هذه الليلة بالذات أشكر يد سجاني لأنها لم تتقن قتلي، فليس في الحب موت، والحب هو نصري المتواضع على سجاني، وأنا أحبك، وأريد منك أن تواصلي مسيرتك، مسيرة الحق، وأما عني فالقصة انتهت، إذ كنتِ تقرأين هذه الرسالة فأنا الآن ميت، كنت أتمنى لو يعطيني القدر فرصة واحدة فقط كي أقبل يدك قبل الموت.
ثم جاء صوت الأغنية بقوة في خلفية المشهد،
هدهدي روحي
وامنحيني السلام..
غني لي كي أرى الحبَّ أمامي..
خلّصي قلبي من المكسورِ فيهِ
ودعيهِ ينام..
لو كان فقط يعرف ما تخبئه لنا الأيام، لاستطاع أن يتحكم بصوته على الأقل، ولا يعبر عنه إلا في الزوايا الميتة التي لا تذيع شيئاً كهذا، لن يصلح شيء في هذا البلد، ستظل غائبة عن الوعي، وما دام هناك سجن سياسي فسيبقى المواطن مقيداً.
جاهد بكل قوة ليبذل مقاومة أخيرة، ليظفر عبثاً بفرصة مستعصية، وأخيراً لم يجد بداً من الاستسلام، فاستسلم بلامبالاة..
وانتهت القصة…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.