صحيح أن مظاهر العسكرة سادت المشهد العام، وأن الجيش هو المتهم الأول بالانقلاب باعتباره المنفذ، إلا أن تغول الجيش على النظام السياسي كان نتيجة لطموح فئة من العسكريين العلمانيين الذين حاولوا الاستفادة من الصراع القديم الدائر خارج المؤسسة العسكرية بين التيارين العام والموازي (بين تيار الإسلام السياسي وتيار الإسلام الاجتماعي) حيث كان الأخير "حسب الاتهامات الرسمية" من وراء تحركات الجيش الأخيرة. ولفهم واقع الصراع بين التيارين يجب العودة إلى المنطلقات الأساسية التي ينطلق منها كل من التيارين الإسلاميين.
لمع نجم تيار الإسلام السياسي على يد المفكر الإسلامي والحركي الألمعي نجم الدين أربكان (1926 – 2011) الذي يعتبر الأب الروحي والمؤسس لتيار الإسلام السياسي في تركيا الحديثة، بعد مجاهدات ونضالات عظيمة في ظل التطرف العلماني، كان نتاجها "العدالة والتنمية" (الحزب الحاكم الآن في تركيا) وتلاميذه أردوغان ورفاقه الآخرين.
وعلى الجانب الآخر كان هنالك تيار إسلامي آخر عرف بالتيار الموازي أو "حركة خدمة" أسسه الإسلامي فتح الله غولن (1941 إلى الآن) يتبنى راية الإسلام الاجتماعي بالعمل الواسع داخل المجتمع متأثراً بتعاليم المدرسة النورسية لمؤسسها بديع الزمان النورسي. وظل يعمل التياران في الساحة التركية كلٍ بأسلوبه وأدواته وحققوا تغيرات ونجاحات واضحه على الصعيد المجتمعي والسياسي العام.
وما إن تقلد تيار الإسلام السياسي السلطة (ديمقراطياً) حتي بات التيار الموازي من أشد المعارضين للسياساته العامة ومناهضاً لها باعتبار اختلاف التقديرات حول بعض القضايا والملفات المحلية والعالمية. إضافةً إلى أن تيار الإسلام السياسي بدأ يطرح تدريجياً مشروع "اجتماعي – سياسي"
(Socio-political) ويحرز فيه تقدماً واضحاً على حساب التيار الموازي، مما أشعره بالتآكل أمام تيار الإسلام السياسي.
وعليه بات يشكل كلٌ منهما تهديداً لوجود الآخر، إذ إن حقيقة تحركات الجيش الأخيرة خلفها صراع إسلامي – إسلامي، بين إسلام سياسي صاحب مواقف واضحه تجاه قضايا مفصلية تتحكم فيها الدولة بصورة مباشرة ويعمل وفق مشروع وبرنامج سياسي متكامل. وآخر إسلام اجتماعي أكثر انفتاحاً على العالم، متسامح مع كافة التيارات الأخرى داخل المجتمع (بما فيها العلماني المتطرف) ويعمل على التغيير ببطء من داخل المجتمع، ويراعى تجنب المصادمة المباشرة.
لذلك قد ترى القوى الخارجية والعلمانية الداخلية المناهضة لتيار الإسلام السياسي الاستفاده من هذا الصراع والتعاون مع تيار الإسلام الاجتماعي الأقرب لها شكلاً وغير المنافس لها سياسياً، خطوة إستراتيجية في سبيل إيقاف مد نجاح مشروع الإسلام السياسي، ولو كان ذلك بطريقة غير ديمقراطية.
فالغاية هي النيل من الإسلام بأطروحته الاجتماعية ومشروعه السياسي عن طريق استخدام "الإسلام ضد الإسلام" والاستفادة من تباين التيارات الإسلامية المختلفة، وقد يصل ذلك إلى خلق إسلام موازٍ يناهض حالة الإسلام الشائعة (داعش على سبيل المثال).
عزاؤنا في تفهم النخبة الإسلامية السياسية والاجتماعية ومحاولة استدراكها لهذه الثغرات في خطابها، لاسيما خطابها الداخلي تجاه التيارات الإسلامية المختلفة الأخرى وقطع الطريق على المؤامرات التي تديرها وتحركها التيارات المعادية والجهات الخارجية.