إنها أنقرة، عاصمة دولة كان أهلها يستعدّون منذ أسبوعين للنوم مساء يومٍ عادي مضى، قبل أن يُفاجئهم ما لم يكن متوقعاً مطلقاً؛ صوت الرصاص يهدر في شوارع المدينة والطائرات الحربية تقصف مبنى البرلمان وبداخله النواب، وحتى القصر الرئاسي، المكان الذي كان يُعتبر الأكثر أماناً في المدينة، لم يسلم من القنابل والأسلحة الثقيلة المثبتة على طائرات الهليكوبتر.
وصلنا العاصمة الساعة الثامنة صباحاً، ضمن وفد إعلامي دولي تشارك فيه "عربي بوست"، الجو خارج السيارة حار والحركة ثقيلة، حتى القيادة في الشوارع تأثّرت بمحاولة الانقلاب التي قام بها عناصر من الجيش ليلة الجمعة 15 يوليو/تموز 2015.
المحطة الأولى: ليتحدث رجال الأعمال
في قاعة للندوات داخل مجمع "أوستيم"، وهو مجمع صناعي واقتصادي وإنتاجي ضخم في أنقرة لرعاية المشروعات المتوسطة والصغيرة، احتشدنا رفقة العشرات من الصحفيين الدوليين. الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً، ورجال الأعمال الأتراك الذين كانت أعمالهم مهددةً ليلة الانقلاب بدأوا في التوافد؛ ليروا قصتهم وقصة تجارتهم مع ليلة الانقلاب الفاشل وما تلاها.
يقول أورهان آيدن، رئيس مجلس إدارة "أوستيم" الذي يُشغِّل أكثر من 60 ألف موظف ويتضمن 5200 شركة، ويعدّ بذلك أكبر منطقة صناعية وإنتاجية في تركيا، إن الاقتصاد "يزدهر بسبب الديمقراطية، ومن أجل ذلك قضى موظفو المجمع الذين كانوا يعملون طوال اليوم ليلة الانقلاب في الشارع لحمايتها وللدفاع عن حقوقهم".
إحدى العاملات بمجمع "أوستيم"
يوضح آيدن أن الموظفين عادوا بعدها إلى أعمالهم داخل المجتمع الصناعي بشكلٍ عادي، "وهو أمر يعني أن رجال الأعمال المتوسطين والصغار سيكملون طريقهم من أجل تطوير البلاد، من خلال الديمقراطية التي سيدافعون عنها دائماً، ومن خلال الصناعة والإنتاج والتصدير".
ولم تتضرّر الشركات عقب محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا، حيث أكد محرم دورتكاشلي، مدير شركة "تايت" التي تعمل في قطاع الصناعات الجوية، أن العمل في مؤسسته وباقي الشركات العاملة معه لم يتوقف، "بل استمر بشكل روتيني وتحاول المؤسسة توسيع نشاطها في الوقت الحالي".
الطريق نحو البرلمان
على الطريق نحو مقر البرلمان، نراقب رفقة الزملاء الصحفيين حركة المدينة من كراسي الحافلة المكشوفة؛ الأعلام التركية في كل مكان، وعلى الشاشات المثبتة في الشوارع؛ لتبث الإعلانات التجارية، تظهر صور وأسماء قتلى الأيام الأخيرة الذين لا يذكر اسمهم هنا إلا واقترن بكلمة شهيد.
المباني العسكرية منتشرة جنباً إلى جنب مع المراكز التجارية والمحلات والإدارات في كل مكان، وكأن أنقرة ثكنة سُمح للمدنيين بالسكن داخلها. بعد 20 دقيقة وصلنا أخيراً لمقر البرلمان.
"نرجو من الجميع أن يعلق على صدره بطاقة المهمة حتى يدخل"، يقول رجل أمن عند بوابة المبنى بصوت مرتفع بعد أخذٍ ورد مع أحد المسؤولين ببلدية أنقرة. الإجراءات الأمنية مشددة هنا، حيث يجري تفتيش دقيق لكل من أراد أن يدخل.
لوحة في الشارع تتحدث عن وحدة الأتراك ضد الانقلاب
من داخل المجلس
وصلنا أخيراً قاعة الندوات داخل المجلس، الكبيرة، وتسبب تصادف وجودنا داخل المكان مع وصول رئيس الوزراء بن علي يلدريم، في احتياطات أمنية أكبر من تلك المشددة أصلاً منذ ليلة الانقلاب.
آثار الدمار ما زالت ظاهرة في المكان، جزء كبير من مبنى المجلس مهدم أو به ثقوب؛ قنابل كثيرة ألقيت على ما بات يسميه الأتراك "رمز الديمقراطية" في البلاد، لكنه مع ذلك لم يتوقف عن العمل قط.
"فتحنا أبواب المجلس رغم القصف المستمر، عقد النواب جلساتهم وتكلم الجميع، ليس كممثلين للأحزاب بل وكلاء للشعب"، هكذا بدأ إسماعيل كهرمان، رئيس البرلمان التركي، كلمته خلال الندوة الصحفية الخاصة التي عقدها داخل مبنى المجلس.
وقال إن للبرلمان دوراً كبيراً في إفشال المحاولة الانقلابية، حيث قارن ما بين انقلاب 1980 وما حدث ليلة الـ15 من يوليو/تموز، حينما لم يتفاعل الناس بنفس الطريقة، ولم يخرجوا لـ"حماية الديمقراطية".
وهاجم كهرمان خلال كلمته التي بثها "عربي بوست" بشكلٍ حي عبر وسائل الشبكات الاجتماعية من البرلمان، زعيم حركة "الخدمة" التي باتت منظمة إرهابية في نظر تركيا، فتح الله غولن، "لتخطيطه للانقلاب من أجل السيطرة على السلطة".
وأضاف أن قائد الأركان الأميركية يزور الآن تركيا؛ من أجل بحث تسليمه، "وسيخضع حينها لمحاكمة عادلة قانونية نزيهة"، قبل أن ينبه إلى أن جماعة الخدمة "منظمة خطيرة يتوجب على كل الدول اتخاذ الاحتياطات ضدها، كما ستفعل تركيا وكل أصدقائها وجيرانها".
واستنكر رئيس البرلمان عدم سماح ألمانيا لمنظمي مظاهرة مناهضة للانقلاب كان يُنتظر أن يلقي فيها أردوغان كلمة عبر السكايب، قائلاً إن القرار اتخذ من دون الرجوع لمحكمة.
ورداً على سؤال صحفي حول قانون الطوارئ الذي بدأ العمل به في البلاد، قال كهرمان "إن نفس الإجراء اتُّخذ في ألمانيا وفرنسا ودول أخرى من دون ضجيج، وتركيا دولة قانون وعدالة، حيث سيراقب البرلمان الأمر وفق الدستور".
الطريق نحو القصر الرئاسي
لا يمكن أن نتذكر ليلة الانقلاب في تركيا من دون ذكر القصر الرئاسي، ليس فقط لحجم المكان ودلالاته، بل أيضاً لحجم التضحيات والمغامرات التي قام بها مواطنون أتراك عزّل لحمايته، بعد أن ناداهم رئيسهم للخروج إلى الميادين.
في الطريق من البرلمان إلى القصر، رافقتنا فتاتان تركيتان أصيبتا ليلة الانقلاب، حكتْ لنا غولسن ذات الـ17عاماً رفقة صديقتها هلال، كيف توجهتا نحوه للتظاهر والتنديد بما يحدث رغم حداثة سنهما، ورغم الدبابات التي كانت تسحق المواطنين وسياراتهم.
"كانت هناك دبابات وطائرات هليكوبتر تطلق النار فوق رؤوسنا مباشرة، الكثير من الناس قتلوا، وفي لحظة ما أصبت أنا أيضاً بالرصاص ونقلت للمستشفى"، هكذا تلخّص غولسن ما حدث معها، وكأنه مسلسلٌ قصير سيئ الإخراج لولا نهايته السعيدة.
حينما استيقظت غولسن من غيبوبتها في المستشفى بعد ساعات، كانت تركيا غير تلك التي أغلقت عليها عيناها قبل ساعات، حيث وجدت أقاربها حولها ليخبروها بأنها "هزمت الانقلابين رفقة صديقتها هلال التي كانت معها أيضاً وأفشلتا مخططاتهم، ولم يعد هناك ما يُقلقهما"، لكن هلال طالبت بمعاقبة الانقلابيين الذين أسمتهم "مجرمين بشدة".
قصر الرئاسة
مضى الآن على محاولة الانقلاب أكثر من 15 يوماً، لكن أرض الشارع المحاذية للقصر ما زالت مليئة بخيام المعتصمين الذين طالبهم الرئيس أردوغان بالبقاء هناك حتى ينتهي خطر الانقلاب.
إلى جانب المعتصمين، ما زالت الشاحنات في مكانها، بعد أن قادها سكان أنقرة وعمال بلديتها لإغلاق الطريق أمام الدبابات والمدرعات العسكرية ومنعها من التقدم نحو القصر، وكأنها خارجة إلى الميادين هي الأخرى حتى ينتهي خطر الانقلاب.
الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، وشمس يوليو/تموز تحرق المكان، لكن رغم ذلك لا يُغادر المعتصمون محيط القصر، بل يلتحق بهم أقاربهم عند المساء بعد انتهاء أعمالهم، لينصبوا المنصات ويبقوا في الميادين حتى الفجر.
مكتب أردوغان
تحت خيمة نُصِبت أمام القصر لتقي الصحفيين من الشمس، تحدثتْ إلينا عائشة سوزان أوسلار، رئيسة العلاقات الدولية في مكتب رئيس الجمهورية، عن الدبابات والطائرات التي قصفت المجمع الرئاسي، رغم علم الانقلابيين بأن الرئيس لم يكن موجوداً فيه، وقتلوا المدنيين.
وقالت إن المشهد تغيّر على الأرض بعد أن تدخلت القوات الخاصة في الصباح، "لكن ذلك لم يكن كافياً ليمنع طائرات إف 16 من قصف أحد مخارج القصر وقتل 5 مواطنين مدنيين".
وأكدت سوزان أن القوات الخاصة سيطرت على المكان في صباح السبت 16 يوليو/تموز، وقتلت 16 من الانقلابين في مقار الجندرمة، واحتجزت أكثر من 200 جندي من المشاركين في الانقلاب". كما نوّهت إلى دور ما أسمته بـ"المقاومة الشعبية" لإفشال الانقلاب، من خلال الشاحنات وحافلات نقل الأشخاص التي قطعت الطرق على الجنود.
ورداً على أسئلة الصحفيين، أقرت سوزان بوجود نقص في المعلومات الاستخباراتية لمنع حدوث الانقلاب، مؤكدةً أنها كانت رفقة طاقم العمل ليلتها يحصلون على معلوماتهم بالأساس من وسائل الإعلام التي كانت تنقل مباشرة ما يجري في إسطنبول وأنقرة بدءاً بخبر غلق الكوبري ثم تطور الأحداث.
الانقلاب والعالم
وأضافت المسؤولة التركية، أن الإدانات الدولية للانقلاب كانت مخيبة للآمال، قبل أن تندد بالصحافة الألمانية، موجهةً كلامها لأحد الألمان قائلةً إنها كانت غير موضوعية في نقل الأحداث "وخيبت آمالنا بالقول مثلاً إن الديمقراطية التركية تضعف بينما يزداد أردوغان قوة! وهذا لا يليق بدولة تتعرّض ديمقراطيتها للعدوان!".
وفي جوابها على صحفية روسية قالت بأن المخابرات الروسية قد تكون حذّرت المسؤولين الأتراك من محاولة انقلابية، أكدت سوزان أنها لا تعرف عن هذا التحذير وأنها تتوقع عودة العلاقات الروسية التركية لحالة أفضل بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل مقاتلة تركية، وبأنهم حريصون على تطبيع العلاقات مع روسيا.
وأشارت إلى أن الرئيس التركي أردوغان سيذهب في زيارة لروسيا يوم 9 أغسطس/آب، وهو موعدها المقرّر قبل المحاولة الانقلابية، كما سيحضر الرئيس أيضاً قمة مجموعة العشرين في موعدها.
هنا كانت شرطة أنقرة
أصابتنا دهشة حينما وصلنا مبنى الأمن المركزي في المدينة، فمهما كان حجم الهجوم الذي عرفته البنايات الرسمية بأنقرة مثل البرلمان والقصر الرئاسي، إلا أن مقر الشرطة هنا يُلخّص كل شيء.
المقر ذو الطوابق الكثيرة أصبح مثل بيت مهجور بسبب الحرائق؛ جزء آخر منه منهار بسبب قصف الطائرات المتواصل لساعات.
ويقول أحد رجال الشرطة الذين كانوا هناك ليلة الحادث رافضاً ذكر اسمه، إن 16 من زملائه قتلوا في المكان، بعد أن واجهوا الانقلابيين بأسلحتهم البسيطة بالمقارنة مع الطائرات الحربية التي كانت تقصفهم.
وأضاف الشرطي لـ"عربي بوست"، أن جزءاً من جوازات سفر المواطنين تضرر بسبب الأحداث، ولم يتبق منها سوى تلك التي كانت في الطابق الأرضي. وأكد أن مديرية الأمن ستفتح مقراً جديداً لها في غضون أسبوع حتى لا تتعطل المصالح الإدارية للمواطنين، "وسبب التأخر في ذلك حتى الآن هو حرصها على أن يكون في مكان يسهل الوصول إليه".
المحطة الأخيرة: من مبنى البلدية
مليح غوكتشك، رئيس بلدية أنقرة منذ عام 1994، وأحد القياديين الكبار في حزب العدالة والتنمية، كان من الأوائل الذين دعوا الأتراك للخروج إلى الشارع لمواجهة الانقلابيين.
وقال إنه توقّع في الأول أن يحتاج الناس على الأقل لساعتين حتى يصلوا للميادين ومكان وجود الجنود الانقلابيين، "لكنهم تمكنوا من الوصول بسرعة قصوى".
واستعرض داخل مقر البلدية الكثير من الفيديوهات التي تظهر إطلاق النار على المدنيين وقتلهم طوال الليل.
وهاجم غوكتشك وسائل الإعلام الغربية وبعضاً من المسؤولين الأجانب، مثل سفير الولايات المتحدة الأميركية لدى أنقرة، حيث قال إن تغريداته على الشبكات الاجتماعية "كانت مخيّبة".