الكتابة و التدوين الإلكتروني بالصحراء

من هذا المنطلق، يمكننا القول إن القهر السياسي كان عامل ضغط، سرعان ما انفجر في وجه "حراس النيات"، مخلفاً وراءه سيل حبر جارفاً بكل مواقع التواصل، والجرائد الإلكترونية، قصاصات بوح رقمي، وكتابات إلكترونية، تتأرجح نشوانة بخمر الحبر، وتتلوى بكي بؤس الحال، وأغوار سؤال الذات والهوية، وتسحق بأحذية قلة التعليم والقراءة الخشنة. فهل التدوين الإلكتروني بالصحراء قفزة حداثة أم تعطش للكتابة لترميم ما فات؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/03 الساعة 07:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/03 الساعة 07:50 بتوقيت غرينتش

"الكلمة الأولى في النص تزيده قتامة وفي الأخيرة تنقشع الومضة.. الكلمة الأولى في النص لا تفشي السر عند العتبة.. الكلمة الأولى تقتله بضيائها أو تحييه إن اتشحت بالسواد.. الكلمة الأولى تردد للضباب النصي، توالي عتمة الدلالات، سماكة كثافة التجاويف، وتقعر وشائج القربى بين الكلمات كالتيه في ثقب أسود.. الكلمة الأولى كاتمة للصوت ملحقة بمسدس أسود قديم.. والكلمة الأخيرة آخر طلقة بيضاء، لكن لها معنى!" بشر حيدار.

في مجتمع بدوي، عرف قطار الحضر طارئاً، فتماهى مع سرعته، بسرعة براقية، جعلت منه صورة واضحة لتهجين "الوبر بالإسمنت"، فكانت المحصلة النهائية لهذا الدخول في الألواح لمن ألف العرى، معضلة، أجسام في تاريخ اليوم الحاضر، وعقول تسبح في ترعة الأمس الغابر.

في هذا المجتمع، كان التدوين غير موجود، قبل سنة 1975، وكانت الحكايات مبتورة في أدب البدو الصحراويين، شفهية المعالم، لم تعرف تدويناً يشملها، يصورها من كل الزوايا، تتأرجح بين الأفواه، تتوالى وتتواتر، وحتى من يحكي، كان مقتضب الحكايات، وحتى الحكايات نفسها، كانت تختلف من فِيهٍ لفِيهٍ.

وبعد الـ75 من القرن المنصرم، كان الصمت سيد المشهد، وخصوصاً سنوات الجمر والرصاص، التي أغلق رمادها منابع النور، حتى صارت الحكاية، كانت لا تجرؤ على الحكاية، والأقلام مسيجة الحبر، والمحابر رهينة الأسر، والكراريس مقيدة السطور بالمنع.

وكل من كان يسمح لهم بالكتابة، كانت كتاباتهم تعد لها السطور الحمراء، وتحد لها الأفكار، بصراحة، كانوا كتبة كذبة، وأقلاماً مرتزقة، بل وشذاذ آفاق.

يقول الكاتب والباحث السياسي المصري عمار علي حسن إن "هناك علاقة طردية بين القهر السياسي وخصوبة الإبداع الأدبي".

ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن القهر السياسي كان عامل ضغط، سرعان ما انفجر في وجه "حراس النيات"، مخلفاً وراءه سيل حبر جارفاً بكل مواقع التواصل، والجرائد الإلكترونية، قصاصات بوح رقمي، وكتابات إلكترونية، تتأرجح نشوانة بخمر الحبر، وتتلوى بكي بؤس الحال، وأغوار سؤال الذات والهوية، وتسحق بأحذية قلة التعليم والقراءة الخشنة.

فهل التدوين الإلكتروني بالصحراء قفزة حداثة أم تعطش للكتابة لترميم ما فات؟!

اليوم يسألني الكثير من الأصدقاء عن ما هو التدوين؟، وما الفائدة منه؟، وما هي قواعده؟

ولا أنكر، أني في بعض الأحيان، أجدني لا أملك إجابة، فأرسم على وجهي علامة ما يوحي بذلك، وفي أحيان كثيرة، أجدني أفسره ولا يستوعب المتلقي ما أقول.

لكن السؤال يظل حاضراً كل وقت وحين، عن ماهية التدوين، وبالخصوص هذا الذي بات يعرف بالتدوين الإلكتروني، الذي امتطى صهوة صفحات المواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها.

في كل صفحة، ترى مدوناً له اتجاهات ماركسية، أو ليبرالية، أو توجه إسلامي، أو برزخي بين تلاطم بحور السياسة اللجي، أو ليس منتمياً لأي توجه سياسي، أو يكون في حالات مدوناً، يكتب في البوح فقط، وهم من جعل التدوين لرقن تجارب الشخصية، فيكتب فيها ما يحصل معه في الحياة، كل امرئ له اتجاه يسلكه في طريق التدوين السيار.

والتدوين هو كلمة مشتقة من فعل دوّن، أي كتب، والكتابة هي فعل انصهار في المحبرة، واكتواء بلظى الحياة؛ إذ تقوم بتحويل كل ما تتخيله من أفكار أو مشاعر، أو نقل أقوال الآخرين، إلى حالة مكتوبة، يمكن قراءتها ليسهل نقله لآخرين، بواسطة الصفحات الإلكترونية، ومواقع التواصل، كي يكون المدون متواصلاً مع الآخرين، الذين يسميهم المعجم الرقمي بـ"المتتبعين الافتراضيين"، أو الـ"Virtual Fans" بلغة شكسبير، هذا التعريف الشخصي المتواضع هو تفسيري للتدوين الإلكتروني، الذي شذبني وهذبني، قربني من الآخر افتراضياً، أكثر من قرب الواقع، علمني كيف أحكي وأبوح رقمياً، كيف أصرخ "كإدفار مونش" مبحوحاً، في وجه الطاغوت إلكترونياً، وكيف أضع أصبع "الديسلايك" في أحداق الطابوهات والطواطم.

وعند التوجه للكتاب والروائيين والمدونين الصحراويين لمعرفة رأيهم كمختصين، تختلف الآراء والرؤى باختلاف مشاربهم الأدبية والعلمية.

الكاتبة الصحراوية، يحانذ ماء العينين، صاحبة رواية "بقايا حب" و"جراح مغتربة"، من النساء الصحراويات اللاتي امتشقن اليراع، في مجتمع بدوي رجولي، استمد من الشرق تلك الثقافة واستغلها، لها رأي في التدوين الإلكتروني، وحول ذلك تقول:

"التدوين الرقمي على مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة تفشت في الآونة الأخيرة بين صفوف الكتاب والأدباء، وبالأخص الذين برزوا حديثاً في الساحة الأدبية، ومن واقع تجربتي في هذا المجال فأنا أرى أن النشر إلكترونياً أسهم في التعريف بأقلام ومواهب متميزة في الصحراء وبنى لها قاعدة جماهيرية لا يستهان بها ليس فقط محلياً بل عربياً، وهذا يعطي للكاتب دعماً معنوياً كبيراً في إثبات موهبته والاستمرار أيضاً، ظاهرة التأليف وإن لم تكن حديثة العهد بالصحراء، إلا أن افتقار المنطقة لمؤسسات تدعم الكاتب الصحراوي وتيسر له النشر الورقي أو على الأقل تسهم في الترويج لمنتجه الأدبي هذا يجعل من الاتجاه إلى العالم الافتراضي خياراً تجبره عليه الظروف، والحقيقة أن هذا الخيار وإن كان يدعم المؤلف ويقدمه إلى شريحة كبيرة من القراء، إلا أن له وجهاً آخر سلبياً يتمثل في الأساس في تعرض الكاتب للسرقة الأدبية وغياب حقوقه الفكرية، إلا في حال نشر كتب إلكترونية معتمدة تحفظ له حقوقه كاملة".

الروائية الصحراوية، البتول المحجوب لمديميغ، صاحبة رواية "مرثية رجل" و"بوح الذاكرة وجع جنوبي"، من الكتاب الذين خاضوا غمار أدب السجون، في زمن كان الصمت فيه سيد المكان، لها نظرت من زاويتها للموضوع، إذ تقول:

" أولاً هناك فرق بين التدوين الإلكتروني، والرقمي، التدوين الإلكتروني هو الموجود على صفحات عالم التواصل، وعلى المواقع وفي المنتديات، أما الرقمي فهو فن يدرس له أصول، مثلاً يمكن الرجوع إلى رواية (صقيع) أو (شات)، لمحمد سناجلة؛ حيث يعتبر أول من كتب رواية رقمية في العالم العربي، أما الأدب الرقمي بكل أصناف اختلافاته، فنجده بشكل مفصل عند الأستاذ (سعيد يقطين)؛ حيث اعتبر أن العصر الحديث (عصر الأدب الرقمي(. أما في الصحراء فهناك فقط مدونون إلكترونيون، لم نصل بعد إلى مستوى أدب رقمي" ويبقى هذا مجرد رأي بسيط، تضيف البتول.

ومن جهته، بشر حيدار، كاتب تقديم رواية "بوح الذاكرة وجع جنوبي"، للكاتبة الصحراوية البتول المحجوب لمديميغ، ومن أوائل الصحراويين، الذين بدأوا التدوين الإلكتروني، وبرزوا فيه، له عن الكتابة رأي خاص:

"الكتابة مجابهة العتمة واضحة النهار.. الكتابة استبصار للطريق المقبل وذكرى لخطو حبري أديم كثيب وخطه الشيب طوال انتظار تلك الغيمة الميتة التي تمحو الأثر.. الكتابة استغوار لثقب أسود يأبى مبيضات الدواة.. الكتابة تربص للقادم من النصوص وتخلص مما فات، الكتابة اندثار لكلمة واندثار للمعنى وغواية.. والكتابة قبس من نار، رجل الثلج جوار مدفأة، بحري يقتلع غضروف مرساة.. وتحت رماد الكتابة ومضات قصيرة على البال".

الشاعر والقاص والروائي الصحراوي محمد النعمة بيروك، صاحب ديوان الشعر "تراتيل الطلح"، ورواية "كولومينا"، أدلى بدلوه في بئر الكتابة والتدوين قائلاً:

(لم يعد الحجر الرسمي يشمل المواطن العادي "القاصر" من وجهة نظر الدولة كما في السابق، ولم يعد أحد معذوراً بأي حال من الأحوال، ولا متحججاً بالحظر الرسمي والإعلامي، ذلك أن الإنسان الذي يملك الموهبة والإرادة اليوم بات يملك معهما محطته الخاصة ملخصة في حاسوبه الخاص المقترن بالإنترنت، وبات في إمكان المبدع شاعراً كان أو سارداً، فناناً كان رساماً أو نحاتاً، أو متميزاً في أي نوع من أنواع الأدب والفن، أن يعلن نفسه في العالم بدون كل العوائق الإقصائية لكل الاعتبارات الإقليمية والمحسوبية، وبات الاعتراف اليوم بالملكات والمواهب حتى من قِبل الجهات الرسمية يأتي بصورة فوقيّة، قد يكون منطلقها افتراضياً في الفيسبوك أو اليوتيوب، وواقعاً في بلد آخر غير بلده).

عموماً، تبقى الكتابة في الصحراء قليلة حد العدم، وممارسوها يعدون على رؤوس الأصابع، وإن شهدت في الآونة الأخيرة ثورة كتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ولأن الكتابة والقراءة توأمان، ما زالت الصحراء تعاني من موت القراءة وغياب تأطير في المجال الثقافي، بل والأشد مضاضة هو افتقارها للمكتبات، وعزوف النخبة المثقفة المعتكفة في بروجها الزيزفونية، عن العامة لتأطيرها.

ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد