كانت حكايات جدتي دائماً تثير فضولي وتجعلني أسرح في عباراتها، إلا نوع حديث واحد كان يمتعضني ويجعلني أنظر مطولاً في دور المرأة على مستوى البيت والمجتمع، لكن عندما كبرت تناهت إلى مسامعي هذه العبارات كأنها مُسلّمات عند ثلة من النساء والرجال، وكأنها مقياس للجودة والتميز، وعندما أناقش أمثال هؤلاء بعد المخزون الفكري الذي خزنته في رأسي من أحاديث جدتي وأمي والجارة وغيرها.. لأخرج بعبارة تحتاج إلى تحليل فيزيائي لمعرفة سبب استمرارها ومعرفة قانون الجاذبية الذي يحكمها بين هؤلاء النساء اللائي ورثنها لجيل أو أجيال..
عندما كنت أسترق سماع أحاديث النساء؛ أن فلانة غسيلها على السطح (بيوج وج) وهي تعني: يتلألأ من البياض، كنت أستغرب هذا المقياس لتقييم المرأة. هي امرأة ممتازة؛ لأن غسيلها يتلألأ على الأسطح! أو أن تبدأ مبارزات أشغال البيت الشاقة بين مجموعة من النساء، فهذه لمّعت الشبابيك لدرجة أنها تصبح شفافة لا ترى وبإمكانك الدخول من خلالها إلى الاتجاه الآخر! وأخرى تتباهى بأنها نظفت كل سجاد البيت المكون من عشرين سجادة ونظفته وحدها بالماء والصابون والمعقمات وحملته وحدها حتى سطح البيت للتنشيف وأبهرت زوجها والجيران بالسرعة والقوة الخارقة! وأخرى تتحدث عن عزومة لعشرات الضيوف، امتلأت مائدتها بعشرات الأصناف من المعجنات والكبب وورق العنب والمحاشي والمفتول والحلويات والمقبلات… و… و…، وطبعاً لإثبات عظمتها، وأنها عملت كل هذا وحدها من دون مساعدة، أما سيدة أخرى فأرادت أن تبدو الأقوى فهي تعزل بيتها يومياً وتغسل الستائر والمفارش بيديها ولا تثق بأداء المكنسة الكهربائية؛ بل تستخدم المقشة وتنظف البيت بلاطة بلاطة لدرجة تحول الأراضي والحيطان إلى مرايا يرى الناظر فيها نفسه.. وهكذا! وتستمر المبارزة الكلامية لإثبات السيادة، كأنها تترشح لمنصب رئاسي في مجتمعها.
هل هذا هو مقياس المرأة؟ هل إنهاك الجسد، الذي هو من لحم ودم وقد أمرنا الله بألا نكلف أنفسنا فوق طاقتها، نوع من التميز؟
فتجد مثل هؤلاء السيدات يتبارزن أيضاً بإظهار أوجاعهن من شغل البيت المضني والمبالغ فيه كإثبات لما تقول، فمنظفة السجاد الخارقة تعاني الديسك وأوجاع الظهر، والساحرة التي حولت بلاط بيتها إلى مرايا تعاني احتكاكاً في عظام ركبتيها،
وصاحبة الشبابيك الشفافة تعاني تشجنات في عضلات الرقبة واليدين… والأغرب من هذا كله، سعادة أزواجهن بهذه الإنجازات الخارقة على حد قولهن، فلا ننكر أن تقع عليكِ كسيدة مسؤولية البيت ونظافته، ولكن لم يحكَم عليك بالأعمال الشاقة، فمثل حق البيت فأولادك ونفسك عليهما حق عليك أيضا، فأي شرع يقبل بأن يتهاوى طفل رضيع من البكاء؛ لأن أمه تريد أن تلمع الشباك أو تنهي عمل المعجنات وغيرها! أي شرع يقبل أن تصنعي مائدة عريضة للتباهي ولم تنتبهي إلى متطلبات أطفالك! أي شرع يوافق على امتهانك لنفسك وعدم الاهتمام بالشكل الخارجي أو الداخلي!
كثيرات من هؤلاء السيدات الخارقات يضحكن من سيدة أخرى متعلمة أو مثقفة، وربما في أول اجتماع يقلن لها بملء الفم: (والله، الشهادة آخرتها عالمطبخ)، قد تصاب الأخرى بالإحباط، وقد تعزف عن الزواج عندما ترى حال المتزوجات الخارقات اللاتي أضناهن الإرهاق في أشغال البيت، وقد تكون هذه الجملة العظيمة هي السلم التي تحاول فيه هذه السيدة المثقفة أن ترتب فيه حياتها بشكل وسطي، فتكون حاضرة اجتماعياً ومربية ممتازة وسيدة بيت وكذلك تهتم بنفسها وأنوثتها وصحتها.
المرأة كرمها الله سبحانه وتعالى، وهي نصف المجتمع، فعقلك يحتاج لغذاء روحي ومعرفي، ولكي يتم هذا الغذاء يحتاج إلى جسم معافى لا تهرمه أعمال البيت الخارقة، وعلى قول جدتي: "العمر بيخلص والشغل ما بيخلص"، فما مدى الاستفادة إن ضاع عمرك وأنت لم تقرئي كتاباً؛ لأنك لم توفّري الوقت لذلك؟ ماذا ينفع الندم عندما تنظرين إلى نفسك في المرآة وتجدين التجاعيد قد ملأت وجهك والشيب قد غزا شعرك وأنت قد أهملتِ نفسك من أجل سجاد البيت والشبابيك؟ وأنت تقفين في عرس أولادك مودعة، كيف ستعيدين السنين إلى الوراء وتلعبين معهم وتمرحين كطفلة بسبب تلميع سيراميك الحمامات وبلاط المنزل؟! ما سيغدو عليه حالك إذا رأيت زوجك مع زوجة ثانية جميلة شابة تستطيع أن توفيه كل حقوقه الزوجية، وأنت غير قادرة على ذلك بسبب أوجاع ظهرك وأقدامك، وظنك أن سعادته برؤية بيته يتلألأ على حساب صحتك!
قال الله تعالى: (لا يُكلِّف الله نَفْساً إلَّا وُسْعَها).. وشهادتك -أيتها المرأة- هي حياتك وحياة أجيال من بعدك.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.