عناصر الفرقة الموسيقية التابعة للحرس الملكي يعزفون منذ ساعات، وغير بعيد عنهم تُسمع أهازيج وزغاريد سيدات.. الكل واقف ينتظر أن يفتح الباب الكبير للقصر ويظهر من ورائه ملك البلاد في أعرق طقس ملكي مغربي.. ولكن هل يحتاجه حقاً لتدعيم شرعيته؟
إنه القصر الملكي بالمغرب ظهيرة آخر يوم من شهر يوليو/تموز، أعداد كبيرة من الناس يتوافدون على ساحة "المشور السعيد" كما يُسمى في البلاد، الكل بلباسه التقليدي ذي اللون الأبيض يترقب بداية الحفل السنوي الخاص كأنه يوم عيد.
ها هما مصراعا الباب العملاق ينفتحان أخيراً؛ أمام ركب كبير من حوالي 10 أشخاص بلباس تقليدي وطربوش أحمر تدور به عمامة بيضاء. ومن ورائهم الملك فوق حصانه بجلباب أصفر، تماماً مثل كل مرة في 31 من شهر يوليو/تموز.
يعتلي العاهل المغربي محمد السادس حصانه، يتشبث بلجامه، ومن خلاله بتقاليد عائلته الملكية التي تعود لعقود، حيث يلتحق في هذا التاريخ بمكان إقامته كل أعيان البلاد، من منتخبين ومسؤولين بوزارة الداخلية من كل الرتب للقيام بطقوس البيعة.
"الله إبارك فعمركم نعم سيدي" (بارك الله في عمركم سيدي).. هكذا يُردد المسؤولون أمام الملك، تعبيراً عن بيعتهم وولائهم له، يتقدم هو نحو الأمام ليمر على كل جهة، واحدة تلو الأخرى، وحينما ينهي ممثلو البلد كله بيعتهم، يلقي الحاجب دعاءه الشهير: "الله إرضي عليكم قال لكم سيدي" (قال لكم سيدي فليرض الله عنكم).
قبعتان للحكم
"هذه الطقوس لن تؤدي إلى أي نفع للملكية في البلاد"، هكذا قال الدكتور عبد الرحيم العلام، الأستاذ الباحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري، وهو يتساءل عن أسباب تشبث الملكية في المغرب بها.
ويضيف العلام لـ"عربي بوست" أن "العديد من الفقهاء يمتعضون من هذه الطقوس، خصوصاً لما فيها من ركوع، وهو ما يتعارض مع المنظور الديني".
لكن العلام يجد ضمن الممارسة السياسية في المغرب تبريراً للأمر، حيث يعتبر أن نظام الحكم في المغرب له قبعتان، "الأولى حداثية والثانية تقليدية".
يشرح العلام ما يعتبره ازدواجية في الحكم بالمغرب، بأن "الملكية تعتمد خطاباً وممارسات تقليدية لاستمالة الذين يروقهم هذا الخطاب في داخل البلد، بينما تقوم بخطوات نحو الحداثة من أجل عيون الخارج والأطراف الأخرى من المجتمع".
تلك الازدواجية هي انعكاس لما هو موجود في المجتمع، برأي المؤرخ بجامعة محمد الخامس بالرباط الدكتور المعطي منجب، الذي يرى في تصريح لـ"عربي بوست"، أن المغرب "مجتمع يعيش انتقالاً في كل شيء، وكل من يحكم يريد أن يُحافظ على البقاء، ومن أجل ذلك، يتم ضم بعض الأمور الحديثة بما هو قديم"، على حد تعبيره.
أما الدكتور العلام، فيُفسر ما يُقصد بالازدواجية بأن المؤسسة الملكية "لا تستطيع أن تعتمد على قبعتها الحداثية أو التقليدية فقط حالياً، لأن الحركات الدينية ما زالت تشتغل، وبالتالي فإنها لا تريد أن تترك المجال لأي فئة".
ويوضح أكثر فيقول إن الملكية لو اعتمدت على ما هو تقليدي في ممارساتها سيتم اتهامها بالرجعية، وإن اتجهت كلية نحو الحداثة سيتم نعتها بأوصاف مثل معاداة الدين.
الدكتور عبد الرحيم العلام
لماذا هذه التقاليد؟
يؤكد الدكتور منجب على أنه ابتداء من عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ظهر تشبث كبير بالتقاليد لدى القصر المغربي، "بل إنه تم استحداث تقاليد جديدة".
ويضيف "الأنظمة التقليدية في التاريخ لا تريد أن تكون مرجعيتها الوحيدة هي المرجعية الحديثة، أي الدستور، بل تحاول أن تشير للمجتمع بأن التقاليد والعادات أهم وأكثر مشروعية، لأنها أصيلة وقديمة".
ويؤكد منجب أن الملك يتشبث بحفل البيعة والولاء تاريخياً؛ لأنه يعطيه مشروعية أخرى أكبر من المشروعية الدينية كأمير للمؤمنين والمشروعية القانونية كوريث للعرش، وهي المشروعية التي تتلخص في مفهوم "السلطان الشريف".
ويُقصد بـ"الشريف" في المغرب الرجل الذي ينحدر من سلالة شريفة ترجع لآل البيت النبوي، وهو الأساس الذي بنيت عليه الكثير من الدول التي تعاقبت على حكم المغرب في التاريخ، حيث ولَّت قبائل أوربة الأمازيغية إدريس الأول عليها وناصرته ضد العباسيين ليؤسس الدولة الإدريسية في القرن الثامن الميلادي نظراً لنسبه الشريف.
ويقول منجب إن الاعتقاد الشعبي حول مفهوم "الشريف" وصل تاريخياً في المغرب "إلى حد الإيمان بأن السلطان يستطيع إسقاط المطر والقضاء على الجفاف، ما يستوجب له نوعاً خاصاً من إظهار الولاء".
الدكتور المعطي منجب
هل ما زالت الملكية بحاجة لتلك الطقوس؟
غير أن العلام لم يعد يرى أي حاجة لتلك الطقوس، بل يعتقد أن لها مفعولاً سلبياً، "حيث إن ثلثي المغاربة شباب، ومعظمهم من خريجي الجامعات، يستعملون وسائل للتواصل الاجتماعي ويتابعون النقاشات الدائرة في المجتمع، وبلا شك فإنهم يمتعضون من فكرة حفل البيعة".
أحمد البوز، أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس، يؤكد هو الآخر أن هذا الطقس المتكرر "سيكون له مبرر وجود لو أن الأمر يتعلق بملكية ينازعها أحد ما في الشرعية".
ويضيف لـ"عربي بوست"، أن الملكية في المغرب كنظام حكم هي موضوع إجماع عام في البلد، وحتى بعض الذين يناقشونها، فإنهم لا يطرحون السؤال عن وجودها، بل يناقشون اختصاصاتها وصلاحياتها، "وأمام هذا الإجماع، فإن مثل هذه الطقوس لا منطق لها".
ومن الناحية القانونية، يؤكد البوز أن الدستور المغربي لسنة 1962، وهو أول دستور رسمي في تاريخ البلاد، لم يترك لحفل البيعة والولاء أي مرجعية أو أثر قانوني، "لأنه حدد كيفية خلافة العرش".
الدكتور أحمد البوز
ماذا عن المستقبل؟
يظهر الملك محمد السادس بلباس عصري، يسبح في البحر ويقف عند الإشارات الحمراء مثل كل الناس، وتُنظم مهرجانات موسيقية تحت رعايته، وفي نفس الوقت تجد المهرجانات الدينية اهتماماً منه، مثل مهرجانات تحفيظ القرآن.
ومع ذلك، فإنه عند نهاية شهر يوليو/تموز من كل سنة، تظهر الاحتجاجات من جديد، يرفض الشباب تلك الطقوس التي يعتبرونها "مهينة"، غير أن الملكية ما زالت متشبثة بها رغم أنها راجعت بعض الأمور، مثل تقبيل يد الملك الذي لم يعد إجبارياً كما كان في عهد الحسن الثاني، لكن إلى أي حد ستواصل في ازدواجية التقليدانية بالحداثة؟
الدكتور العلام يعتقد أن الملكية بدأت تعي فعلاً أنه من الصعب التوفيق بين الأمرين، وقد قامت بتقليل المظاهر، حيث يُلاحظ أن عيد العرش، وهو عيد وطني في المغرب يُحتفل به في الذكرى السنوية لجلوس الملك على عرشه، لم يعد بنفس الصخب الذي كان به من قبل.
لكن الدكتور منجب، رغم تحذيره من استمرار تلك الطقوس، إلا أنه يقول إن الملكية المغربية عرفها عنها أنها تتطور مع المجتمع، "فإذا تطور هو بما فيه الكفاية، فإنها ستحاول التطبيع مع المجتمع والحداثة حتى يمكنها الحفاظ على دورها داخله".