شوقي لزيارة لندن زاد من حماسي في الاستعداد قبل الرحلة بساعات، من حسن حظي أن طاقم الرحلة كان خليطاً من جميع الجنسيات، مثل التوابل التي تمنح الأكل مذاقاً لذيذاً، التنوع مطلوب في كل شيء، فهو مضاد للملل ومثرٍ للثقافة.
جميعنا كان متحمساً للرحلة؛ حيث سادت حالة من الارتياح بيننا جميعاً رغم اختلاف الثقافات، محمد مشرف الطاقم كان من ألطف الشخصيات التي عملت معها، كان يهتم بالطاقم بصفة إنسانية راقية وابتسامته التي نادراً ما تفارقه، هذا بالإضافة لدمه الخفيف، حيث كان لديه ذاكرة 100 جيجا يحفظ فيها آلاف النكات الهزلية المضحكة، أعترف بأني من عشاق الضحك وأفضل البقاء مع هؤلاء المجانين الذين يصرون على محاربة الحياة بضحكاتهم.
ما أثار دهشتي وقتها أن معظم الركاب كانوا هنودً وسيريلانكيين يحملون الجنسية البريطانية وكانوا فخورين جداً بذلك، لدرجة أنه عند سؤالي أحدهم عن أصوله قال لي أنا بريطاني، تعجبت وقتها من هذا الفخر الذي يجاهر به وهو يحمل جواز سفر دولة احتلتهم وانتهكت حقوقهم وكرامتهم وخيراتهم، ولكني الآن أدرك تماماً كم كنت ساذجة، بعد معاصرتي لأنظمة تحكمنا وتهدر كرامتنا وتسلب منا حتى أبسط حقوقنا في الحياة في بلدان نلقبها بأوطاننا!!
أليس الوطن هو ذلك المكان الذي يمنحك الشعور بالطمأنينة والأمان، الشعور بالانتماء الذي ينمو معك وأنت تحصد خيرات تلك الوطن لتنعم بها!! إذاً لا عجب في أن نسعى جاهدين للبحث عن ذلك الوطن، لعلنا ننجح في أن نجده قبل أن نموت كمداً تحت حكم عصابات المافيا التي تسلبنا حبنا للحياة كما سلبتنا انتماءنا للوطن.
محمد وأنيتا كانا يساعدنني طوال الرحلة، أنيتا هي الأخرى كانت أول زيارة لها للندن، كنا نعمل في الطبقة السياحية نحاول تلبية رغبات المسافرين الكثيرة والعجيبة أيضاً، على سبيل المثال: طلب مني أحد الركاب الملتحي، الذي يرتدي السروال الباكستاني المعروف ويحمل السبحة في يده، التي تعطي انطباعاً بأنه مسلم، طلب مني أن أقدم له "جعة" في كوب من الورق حتى لا يظهر لمن حوله أنه يشرب الخمر، تعجبت من طلبه، ولكن هو لا يفرق كثيراً عن هؤلاء الذين يتزينون بمساحيق التجميل حتى لا يظهروا عيوب بشرتهم، أو من هؤلاء المدعين للشرف حتى ينالوا احترام الناس، أو من الزوجات اللاتي يتصنعن السعادة في حين هن في قمة البؤس، أو من الأزواج الخائنين وهم يؤدون دور المخلصين، البشر متشابهون جداً ولكن يعتقدون غير ذلك.
كانت رحلة طويلة ومرهقة، كنت أصارع النوم وأنا جالسة في انتظار سماع إشارة ربط الأحزمة، "أنيتا" كانت أجرأ مني، حيث اتخذت من مقعد الحمام سريراً لها، كنت أود لو أستطيع أن أنام بداخل الحمام، ولكن القرف من مجرد الفكرة منعني من المحاولة.
بعد الهبوط بسلام، بدأ الركاب بالوقوف استعداداً للنزول رغم عدم استقرار الطائرة بعد، دائماً نحن البشر متعجلون، ونحن صغار نريد أن نكبر، ثم نريد أن نتزوج، وأن نُكوّن أسرة وأن نمتلك ثروات، وأن نحقق طموحاتنا بأقصر الطرق، ودائماً نفكر في الغد ونفقد متعة أن نعيش اللحظة بسبب التفكير المستمر فيما سيحدث بعد، أعتقد أن الفقراء هم الوحيدون القادرون على عيش اللحظة بكل ما تحملها من تعاسة وسعادة، لا يوجد لديهم خطط مسبقة ولا أحلام ينتظرون تحقيقها، ولا غد يأملون أن يكون أفضل.. لا أعلم هل هذا هو الرضا أم الاستسلام.
يقول ديل كارنيغي: "تذكر أن اليوم هو الغد الذي كنت قلقاً عليه بالأمس" .
اتفقنا جميعاً على الخروج لتناول العشاء في مطعم قريب من الفندق، وبالفعل التقينا في بهو الفندق وسرنا معاً، استمتعت كثيراً بالسير في شوارع لندن النظيفة وأشكال المنازل ذات الأسطح المثلثة التي كنت أشاهدها في الأفلام، تحول الجو من مشمس إلى ممطر في غضون دقائق، اضطررنا لدخول أول مطعم نجده، كانت رائحة الكاري معبِّئة للمكان، شعرت أنني دلفت منزل صديقتي سونو الهندية, هذا الشعب العجيب، مهما أرتحل يحمل معه كل عاداته، هذا المطعم الهندي كان بمثابة الوطن لصاحبه الذي أبى أن يترك وطنه فأخذه معه، انتبهت لموسيقى من مجموعة "بودا بار" الهادئة والجميلة، وشعرت أنها تتعانق مع رائحة الكاري والبخور وتحتضن هذا العدد الكبير من تماثيل الآلهة الهندوسية المختلفة, شعرت بالألفة مع المكان، ربما لأني اعتدت تلك الراحة في منزل صديقاتي أو لأنني في صحبة طيبة، استمتعت بالعشاء وبتلك الأصناف الحارة، وخصوصاً "فخذ الخروف بالخلطة الهندية: التي أنصحكم بتجربتها إن أتتكم الفرصة".
أتعجب من هؤلاء البشر الذين يتجولون عبر القارات لاكتشاف الثقافات المختلفة ولا يتذوقون الأكلات المعروفة للبلد، ويتجهون لمطاعم البرغر المتعارف عليها أو يبحثون عن مطاعم عربية في دول أوروبية ليتناولوا نفس الوجبات التي اعتادوها في بلدانهم، مثلهم مثل الذي يسافر في إجازة ويظل جالساً في الفندق ولا يخرج يستكشف المكان وينهل من تاريخه… تجربة الأطباق المختلفة التي تحمل عبق وتاريخ وسحر تلك الدول من ألذ وأجمل التجارب التي تعطي للرحلة نكهة ممتعة، فكرة الأكل ليست فقط لسد الجوع، ولكن للاستمتاع بالنكهات المختلفة والمتنوعة للدول، وتظل نكهته في ذاكرتك كلما تذكرت تلك البلدة.
بعد أن امتلأت معدتي بالكاري والشطة وامتلأت روحي بالراحة والسلام الداخلي الذي استشعرته بالمكان، عدت لغرفتي وقد تعاهدت مع أنيتا أن نلتقي في الصباح الباكر لنتجول في لندن ونتعرف عليها شخصياً ونتذوق نكهتها.
استسلمت لنوم عميق أعمق من المحيط في سعادة مختلطة بالإرهاق وشوق لغد أجمل.
(يُتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.