“الواجهة “حينما يكون الأديب فيلسوفاً

وقفت بعدها في وسط الغرفة عاقداً يدي أمامي، مبتسماً ناظراً بطرف عيني إلى لا شيء، أفكر فيما فعلته بي رواية "الواجهة" وما قدمه لي د. يوسف عز الدين عيسى، بأسلوبه المشوق الساحر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/20 الساعة 04:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/20 الساعة 04:10 بتوقيت غرينتش

فضولي الأدبي جعلني لم أستسلم في الحقيقة، وسألت عنها كل أصدقائي إلى أن حصلت أخيراً على نسخة منها، جاءتني هدية من أحد أصدقائي وكانت فرحتي آنذاك لا تقدر بثمن، لدرجة أنني انتحيت جانباً في المقهى وأخذت أقرأ فيها وأنهل منها.

أحب أن أتحدث في البداية عن أول سطر في الرواية:
"لا يذكر من أين أتى، ولا لأي غرضٍ جاء، ولكنه في صباح أحد الأيام وجد نفسه في هذه المدينة التي لا يعرف عنها شيئاً".

في البداية نجح الكاتب أن يأخذ بتلابيبي من أول سطر، واستخدم أسلوباً مشوقاً للغاية ليجعلني لا أطرف، أو أنتبه للنادل الذي سألني ماذا أريد أن أشرب، أو أبرح من مكاني بعدما مرَّت عليّ ساعة ونصف وقد وصلت إلى الصفحة الثالثة والستين، واستمررت إلى أن وصلت للصفحة المائة وبالكاد نهضت لأرحل، أكملت قراءتي في المواصلات إلى أن وصلت منزلي، وأكملت أيضاً إلى أن انتهيت منها عند أذان الفجر.

وقفت بعدها في وسط الغرفة عاقداً يدي أمامي، مبتسماً ناظراً بطرف عيني إلى لا شيء، أفكر فيما فعلته بي رواية "الواجهة" وما قدمه لي د. يوسف عز الدين عيسى، بأسلوبه المشوق الساحر.

تناولتْ هذه الرواية – التي بلغت في الأهمية ذروتها – ملايين الأسئلة التي تدور داخل النفس البشرية عموماً، استطاع بواسطة البطل "ميم نون"، وباقي شخوصه أن يصف الشجار الطاحن الذي يدور كثيراً بين عدة أشخاص، هم في النهاية ليسوا إلا شخصاً واحداً بداخلنا.

وكان الكاتب طوال كتابته لهذا العمل كالذي يسير على خيطٍ رفيعٍ إن سرح لبرهة، أو أخذته سِنة من الغفلة، سينهار العمل كله، لكنه أثبت أنه كان نابهاً منتبهاً طوال الوقت.

أيضاً، أثبت لنا أن نَفَسَهُ طويل جداً، وأخذ يسرد لنا – بلا هوادة – رحلة البطل، وبحثه عن الحقيقة طوال الرواية مستخدماً أعلى درجات الإثارة والتشويق، حتى إنني انتابتني حالة من الحزن حينما وجدت نفسي – دون أن أدري – قد اقتربت من النهاية، وأوشكت على ترك "ميم نون"… ، وبالكاد كنت التقط أنفاسي وأنا أركض لاهثاً وراء الصفحات، نعم… كانت أنفاسي متسارعة كالذي يركض خلف قطار!

قليلة هي الأعمال التي تناقش قضايا بطريقة فلسفية في إطار أدبي، وبأسلوب أدبي راقٍ وبسيط خالٍ من أي تعقيد أو استعراض، رواية الواجهة أحد هذه الأعمال، والمثير للدهشة هنا أن القارئ لم يجد سطراً مملاً قط، لن يجد كلمة واحدة كحشو.. بل على العكس، فكل صفحة بها حدث جديد أو حدثان… وربما أكثر، والخط الدرامي يسير بالقارئ للأمام دائماً دون أن يتوقف ولو في سطرٍ واحد، مما جعلني أشعر بعدة مشاعر في آنٍ واحد، وتصدر من عضلات وجهي عدة ردود فعل في آنٍ واحد.

كل الإسقاطات والرموز التي استخدمها الكاتب لا يختلف عليها اثنان ابتداء بـ"مالك المدينة" و"البالوعة" مروراً بـ"القطار"، "السيارات السوداء"، "الشاعر"، "مكتب الاستعلامات"، "مكتب الشكاوى"، انتهاءً بالشارع الخلفي والمبنى العالي.

استطاع الكاتب استخدامهم وتوظيفهم في بناء فكرته عن الوجودية والعدمية والأسئلة التي تدور في ذهننا جميعاً حول الحياة والموت وما بينهما، لا يوجد شخص لم تتحرش بعقله مثل تلك الأسئلة يوماً ما… ربما هذه الأسئلة هي ما دفعت الكاتب أن يكتب روايته تلك، فاستخدم كل الرموز السابقة لتوضيح ما يدور داخل النفس البشرية، وترسيخ فكرة "البحث عن الحقيقة"..

أيضاً كان توجد إسقاطات سياسية مثل "الطاحونة" و"الغلاء المستمر" بالمطعم والمتاجر… وبطبيعة الحال فالرواية كتبت في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، الفترة التي شهدت منعطفاً خطيراً في غلاء الأسعار… وللحق، فالرواية تنطبق أحداثها في كل زمان، واليوم تحديداً، ليس في المجتمع المصري فقط، بل العربي أيضاً، وربما العالمي.

نهاية الرواية كانت موفقة تماماً، مما رسخ لدي أكثر فكرة أن الكاتب يملك نفساً طويلاً وحافظ على الروعة والإثارة والتشويق من أول كلمة حتى كلمة "تمت".

حصلت الدار المصرية اللبنانية، أخيراً، على حقوق إعادة نشر العمل، وطباعتها في نسخة راقية تليق بعملٍ كهذا، وغلاف رمزي معبر جداً ينم عن رمزية العمل في الأصل، وإخراج بلغ في الجمال قمة الكمال، وجاءت بتقديم من الأديب الرائع أ. سعيد سالم.

أيضاً قامت الدار بنشر رواية الكاتب الأخيرة (عواصف) التي لم تنشر من قبل.
عزيزي القارئ، نصيحة أخيرة، يجب عليك التحلي بالحيادية التامة عند قراءتك لهذا العمل، وأن تتخلى عن كل ما هو متعصب، فالكاتب عرض من خلال شخوصه كل الأسئلة التي تعتمل بداخل النفس البشرية، وهذه حقيقة شئنا أم أبينا… الحقيقة التي يبحث معظمنا عنها، كما فعل بطل الواجهة "ميم نون".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد