قد تكون المشكلة لدينا في استخدام كلمة "علماء" كامنة في التصور الذي زرع في الأذهان تجاه هذه الكلمة، وفيمن يستحقونها عبر زمن ليس بالقليل.
فمنذ مئات السنين تمحور إطلاق هذه الكلمة على فئة من الناس تكلمت أو دونت ما سمي اليوم "علوم الشريعة" من فقه وحديث وتفسير و….. وغيرها، وباعتبار هذه الكلمة ووقعها على الأسماع والأفهام وما تحمله من اعتبار، أصبحت هذه الفئة من الناس هي المستهدفة في السؤال، وتوجب عليها الإجابة حينئذ وفق هذه التسمية عن كل الأسئلة المطروحة حتى ولو كان خارج إطار معرفتها، كالأمور السياسية والعسكرية وحتى العلمية كالكيمياء والفيزياء وغيرها، وقد كان لوقع الإجابات تلك أثر سلبي فيما بعد على الواقع، وخاصة أن تلك الإجابات اصطبغت بصبغة الدين المقدسة، كونها صدرت من "علماء" في الشريعة.
إن التعريف الذي يعتبر أكثر رواجاً في العالمين العربي والإسلامي وما ينصرف إليه الذهن مباشرة عند إطلاق لقب "العالِم" في مجتمعاتنا، إلى أولئك العارفين بشرع الله، المتأولين لآياته، المتفقهين في دينه، وأيضاً أولئك المتحدثين في العلوم الإسلامية المختلفة ذات الطبيعة الشرعية اللاهوتية الدينية؟!، وهو انصراف ذهني تأدلجت عليه العقول العربية والإسلامية منذ عصر التدوين وإلى يومنا هذا دون أن يطرأ على هذا المفهوم أي نوع من التطوير أو التجديد، مستنداً على فكرة الأفضلية المطلقة لهذه العلوم عن غيرها وكونها علوماً تصلح معها الدنيا والآخرة!!! مقارنة -بحسب هذه الفكرة- بالعلوم الأخرى التي تُصلح الدنيا فحسب؟!!!
أما على الضفة الأخرى، وفي العالم الذي يشهد قفزات نوعية في الأبحاث والاكتشافات، فإن كلمات "علم " و"علماء" قد خضعت لنقاشات ومسارات متعرجة ومختلفة عبر التاريخ لمحاولة التحديد الدقيق لهذه الكلمات، وفصل معناها عن معنى "المعرفة" المجردة (وهو ما لم نحاول القيام به لحد الآن)، ليستقر معناها في نهاية تلك المحاولات لتكون بمعنى العلم المادي والتجريبي، مستبعداً منها الثيولوجيا (الدين واللاهوت) والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) وتمييزاً لها عن مجالات معرفية أساسية مثل الفلسفة والأدب والتاريخ واللاهوت، وهو ما حدا بالبعض إلى محاولة وضع منهج يستلهم منهج العلوم الطبيعية في المعارف الاجتماعية والإنسانية المختلفة لترتقي من كونها معرفة لتصبح علماً بحد ذاتها.
ويعرف "العلم "على هذا النحو بأنه منظومة الأفعال والأقوال التي يمارسها العلماء في بحث ودراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية ومحاولة تفسيرها وفهمها والكشف عن حقائقها المحتملة على الدوام، باستعمال المنهجية التجريبية والاستدلالية العقلانية، وقد يساهم في دعم القائلين بهذا التعريف كون كلمة "علماء " و"عالمون" وردت في كتاب الله بعد الحديث عن قضايا تخص تفاصيل الطبيعة الكونية.
وانطلاقاً من هذا المفهوم فإن" العالِم": هو المبدع الذي يتسم بمخرجات فكريّة أو علميّة أو في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة الأخرى، شريطة أن تكون هذه المخرجات نافعةً للبشريّة وتمثّل إضافةً جديدة على النّتاج العلمي أو الفكري للبشريّة، وليتم استثناء كل ما عدا ذلك من لقب "عالم".
وعلى الرغم من كون الفاصل بين المعرفة والعلم أصبح أكثر وضوحاً في العالم المتحضر، فإننا ما زلنا نخلط بين الأمرين بشكل فوضوي دون تفريق بين مَن يخزن المعلومة ويعرضها وبين ذاك الذي يسعى جاهداً لاكتشافها والغوص في دلالاتها وكنهها.
لقد كانت وظيفة الأنبياء الأساسية هي توعية الناس وتبصيرهم نحو الحقائق الكلية الخافية عن العقول والأذهان، وتقديم الإرشاد في سبيل الإصلاح المجتمعي عبوراً إلى ضفة الازدهار والرخاء من خلال اطلاعهم على أساسيات السنن الكونية التي تحقق نفعاً عاماً للبشرية فيما إذا اتبعت، ولذا استحق كل من قدم نفعاً للبشرية على نحو غير مسبوق أن يكون وريثاً للمنهاج النبوي الذي يبدو واحداً من حيث كونه ينشد النفع للبشرية .
" العالِم" لا يمكن أن يكون مجرد عارف بنوع أو مجموعة من المعارف، أو ممن يظهرها أو يعرضها بأي شكل من الأشكال، فـ"العلم" آلية للتفكير ومنهج في البحث والتقصي ووضع الاستنتاجات للوصول إلى حقيقة جديدة ومختلفة، والتي دائماً ما تتكشف عن أبعاد مختلفة أخرى لحقائق أخرى في كل خطوة تخطوها إلى الأمام في هذا السبيل.
ووفق هذا الفهم؛ فإنه لا يمكن وصف "الدراويش "المقلدين لأسلافهم، والمكررين لأقوال سابقيهم، حذو القذة بالقذة، بأنهم "علماء" بأي شكل من الأشكال .
إن إعادة إعطاء الأشياء مسمياتها الحقيقة، خطوة مهمة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل التوصيف الأكثر قرباً للحقيقة والبعيد عن الهدف الشيطاني في تسمية الأشياء بمسمى غير مسماها الحقيقي (شجرة الخلد وملك لا يبلى)؛ ليصل لهدفه المنشود؛ زلل الإنسان إلى الإضلال والضلال.