العلم.. إنه أكثر شيء يمكن أن نحترمه ونصدقه في هذا العالم المليء بالضجيج والسخافات، إننا نحترم العلماء ونقدس عملهم الدؤوب في تطوير حياتنا وجعلها أسهل في فهم ما يجري حولنا.
يقول الدكتور راتب النابلسي: "يقال الجريمة المنظمة كمصطلح، الجريمة المنظمة وراءها أدمغة، وراءها عباقرة، وراءها ذكاء عالٍ جداً، فحينما يستخدم العقل والفكر والذكاء للشر فهذا علم يضر وعلم يشقي، وحينما يستخدم العلم للمتعة فقط هذا علم لا ينفع".
وهذا القول ينطبق تماماً على وقتنا الحالي الذي تظهر فيه يومياً مئات الدراسات والنظريات الحديثة التي تعرضها وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى القنوات الفضائية كلها تبدو كعلم لا ينفع لا للخل ولا للخردل!
* البيتزا أكثر الأكلات إدماناً..
* الوجبات السريعة ليلاً تضر الدماغ.
* أصحاب اليد اليسرى يموتون قبل أصحاب اليد اليمنى بثلاث سنوات..
* الحضن يخفض التوتر..
* حضن كلبك سيئ لكلبك..
وغيرها من الدراسات العبثية العديمة الجدوى غير المثبتة والمتناقضة التي تخرج يومياً من مصانع (العلم والعلماء) دون أن ندري من أين وكيف خرجت! لا بل مصادر هذه الدراسات لم يعد مهماً أصلاً فيكفي أن تأخذ المعلومة المبسطة التي يمكن للعقل البشري غير الراضي بالمحاكمة أو التفكير أن يتقبلها بكل بساطة من مواقع مثل (هل تعلم، حقائق سوداء، حقائق علمية، معلومة نفسية كل يوم… إلخ)؛ ليتم التسليم بها تماماً ونشرها على أنها حقيقة.
لقد ضاعت هيبة العلماء وتحولوا كما غيرهم إلى مادة رخيصة للترفيه، لقد تم تفريغ العلم من مضمونه وتحول إلى مجرد اقتباسات قصيرة المجهولة المصدر أو المنسوبة إلى أشخاص وهميين أو للشخص الخاطئ فلم تضع الفائدة فقط بل تشوه معها التاريخ، وغابت الحقائق وأصبحت كغيرها من المعلومات القصيرة التي تنشر يومياً والتي تتناسب مع مدى الانتباه القصير لمعظم الناس في العصر الحديث، حيث الكتاب أصبح طويلاً، والدراسات والنظريات العلمية الحقيقية مملة ومعقدة.
لا أعرف الفائدة المرجوة من هذه الدراسات، ومَن المستفيد حقاً من نشرها وتداولها بين الناس، ولماذا يتوجه العامة إلى تصديق مثل هذه السخافات دون إحكام العقل فيها، مثل هذه النظريات لو دققت فيها قليلاً لوجدت أنها تحمل العديد من الأخطاء العلمية والكثير من التناقضات! كأن يخبروك أن الخمر والمسكرات مضرة للجسم، ثم يخبرونك أن شرب كأس من الخمر يعادل ساعة في ناد رياضي! بعض هذه النظريات لا تبدو أنها خرجت من أفواه علماء، بعضها تبدو وكأنها خرجت من أفواه أحد المخمورين المتسكعين في الشوارع القذرة لتكون عبارة مكتوبة على "تي شيرت" أو اقتباساً على الفيسبوك.
تقول إحدى "الدراسات": النساء يميلن لأن يصبحن أكثر انفتاحاً على العلاقات الرومانسية عندما يشعرن بالشبع! أولاً هذا صحيح، ثانياً أي شخص سيصبح أكثر انفتاحاً على أي شيء عندما يشعر بالشبع!! علماً أن هذه النظرية أجريت على 20 امرأة فقط، مما يعني أنها لا يمكن أن تعمم على كل النساء، الخطير فعلاً هو عندما تتبنى مصادر صحفية شهيرة مثل هذه "الدراسات" التي تلامس الحياة الصحية للناس بشكل مباشر، كمجلة ذا وييك الأميركية مثلاً التي نشرت في أحد أعدادها دراسة تقول: شم الغازات التي تخرج من البشر قد تمنع الإصابة بالسرطان!!
بينما نشرت العديد من الصحف والقنوات الفضائية دراسات عديدة تتعلق بـ"القهوة" التي غالباً ما تعطي طابعاً رومانسياً بعيد المدى لسبب ما زلت أجهله شخصياً، إلا أن الدراسات العلمية مؤخراً أصبحت تمجد القهوة وتضعها في مصاف الأدوية التي يجب أن تباع في الصيدليات:
* القهوة تساعد على الإنجاز.
* القهوة تحمي من سرطان القولون.
* القهوة تحمي من الإجهاض!!
وكأن القهوة الآن آلهة تملك قوى خارقة، إنها قد تحميك وقد تقتلك اعتماداً على مدى اعتقادك بقواها الخارقة!! وبعد كل هذه الدراسات غير المنطقية يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: هل يمكن أن يكون العلم مجرد ترهات؟؟ أي سخف واستخفاف بعقول الناس هذا؟!!
بالطبع لا.. لكن ما يحدث أحياناً هو أن بعض الدراسات قد تخرج بشكل مختلف عما هي عليه، وذلك من خلال الإعلام الذي قد يستخدم المعلومة بطريقة تجذب القارئ وأحياناً يحدث ذلك بسبب أن العلم غالباً ما يعمل وفق تجارب متعددة للوصول إلى نتيجة نهائية وخلال سلسلة التجارب التي قد تجري للوصول إلى معلومة لا علاقة لها بالتجارب الصغيرة السابقة قد تخرج إحدى التجارب الصغيرة إلى الإعلام أيضاً ويتم تناولها كخبر كامل، أحياناً يمكن أن يكون للضغط إعلامي على العلماء دور في خروج التجارب المبدئية خاصة إذا كانت تحمل صفة إيجابية.
المخيف هو محاولة شيطنة المخابر العلمية المتعاونة مع الإعلام المشيطن الذي يحاول دائماً جذب اهتمام المشاهد وتوفير مواد ترفيهية قدر المستطاع غير آبه بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن ذلك. بعض المعاهد ومقرات الأبحاث كانت قد أعلنت مراراً أنها لم تصدر أي دراسة فيما يتعلق ببعض المعلومات، وأن البعض منها خرج على نحو مختلف تماماً عما هو في الحقيقة، أو أنها كانت مجتزأة بطريقة مغلوطة.
إن من طبيعة البشر، وخاصة النساء، أنهم يحبون المعلومات الخفيفة التي يمكن أن يشاركوها كثرثرات عابرة، ومنتجو البرامج يعلمون ذلك تماماً، وغالباً ما تمتلئ البرامج الصباحية الموجهة للنساء بمثل هذه الترهات، لقد تحولت الدراسات السخيفة إلى مادة يومية وأساسية في البرامج التلفزيونية بغية تحقيق نسب مشاهدة عالية، دون مراعاة لما قد تسببه هذه المعلومات من ضرر، إنها تعمل على إفراغ العقول من المهم وملئها بغير المهم، كما هو حال العديد من المجالات التي تملأ حيانتا في العصر الحالي.. فالحذر ثم الحذر من تخدير العقول وإشغالها بعلم لا ينفع ولا يسمن من جوع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.