شتموني وضربوني وقهروني".. كانت هذه أخر كلمات الباحث والأستاذ الجامعي التونسي"
عماد الغانمي (43 عاماً) لصديقه عماد بن مفتاح في اتصالهما الأخير ليلة عيد الفطر، قبل أن يضرم الغانمي – بعدها بأيام – النار في جسده أمام مركز الأمن بمدينة الحنشة من محافظة صفاقس جنوباً، تاركاً زوجة و3 أطفال يتامى.
تلك الكلمات التي عبرت عن ثقل الألم الذي اعترى الغانمي وجعله يضيق ذرعاً بالحياة، لم تكن إلا تلخيصاً لرحلة أستاذ الرياضيات الحاصل على شهادة الماجستير من فرنسا، غير أنها لم تؤهله إلا للعمل في الحظائر والمقاهي وبين البائعة الجائلين.
رحلة السير على الأشواك بين طلب العلم والرزق
آمال الغانمي تستهل روايتها عن رحلة معاناة زوجها الفقيد بقولها: "ما حدث ليس إلا فصلاً من فصول المعاناة التي يعيشها مئات من أصحاب الشهادات العليا في تونس، لم تشفع لهم حتى في الحصول على وظيفة براتب ملائم".
"لم يعش عماد كغيره من أبناء جيله، فقد دفعته ظروف والديه المزرية لدخول سوق الشغل مبكراً، وهو في سن 14 سنة، حيث كان يبيع خبز التنور الذي تصنعه والدته، ويشتغل كعامل في الحظائر ليؤمن قوت عائلته ومصاريف دراسته"، تروي آمال لـ"هافينغتون بوست العربي".
وتضيف الأرملة المكلومة: "تفوق عماد في الدراسة جعل طموحه يكبر شيئاً فشيئاً، ولم تقف العوامل المادية وضنك العيش دون تحقيقه لحلم التخرج ونيل شهادة البكالوريوس في الرياضيات، ثم السفر لفرنسا، حيث تم قبوله في جامعة فرساي، التي نال منها شهادة الماجستير بتقدير جيد جداً، وكان بالتوازي يعمل نادلاً في المطاعم والمقاهي، وعاملاً في الحظائر حتى يوفر مصاريف دراسته".
من جنة الجامعة لجحيم الشارع
عاد عماد بعد نحو سنتين إلى بلاده، حاملاً شهادته العليا باعتزاز، وفاتحاً ذراعيه لحياة تنهي ما تحمله من شقاء خلال سنوات عمره الماضية.. فقد تحقق الحلم وصار مؤهلاً للوظائف المرموقة.. وبالفعل حصل على عقد عمل كأستاذ جامعي في كلية العلوم بمحافظة المهدية ثم تنقل بين عدة معاهد وكليات تونسية لمدة 7 سنوات.
تروي آمال بحسرة: "لم يتوقف عن طلب العلم، حيث واصل سعيه لنيل شهادة الدكتوراه بالتزامن مع عمله كأستاذ متعاقد.. إلا أن راتبه المقدر بـ250 دولاراً كان يتأخر أحياناً لمدة 8 أشهر بسبب تعطيلات إدارية من الوزارة، ما ساهم في تردّي الوضع المادي للعائلة ودفع بعماد للاقتراض من أكثر من جهة، ثم بدأت أنا أيضاً أقترض، حتى أثقلت الديون كاهلنا".
"رغم كل هذا كنا صابرين، حتى وقعت الكارثة بالقرار المشئوم الذي قلب حياتنا إلى جحيم، حيث أصدر وزير التعليم العالي في تونس شهاب بودن قراراً في مفتتح السنة الدراسية 2016 يقضي بفصل كل الأساتذة الجامعيين المتعاقدين مع الوزارة.. وهم 2600 أستاذ، بينهم عماد".
حجزوا سيارته ودراجته فطفح الكيل
قطع استرسال محدثتنا لحظة صمت بدت خلالها كمن يستجمع طاقته مجدداً لتقول: "لم يستسلم عماد، ولم يتسرب اليأس إلى قلبه، ولم يمنعه تحصيله الأكاديمي ولا كبرياؤه من العمل مجدداً في الحظائر والمقاهي بمحافظة بنزرت شمالاً، في سبيل توفير لقمة العيش لأطفاله.. كما اشترى سيارة مستعملة دفع ثمنها بالتقسيط وأصبح يتنقل بها بين بنزرت وصفاقس كبائع متجول يبيع سلعاً مختلفة.. بعضها مهرّب من سجائر ولعب أطفال.. حتى استوقفه رجال الشرطة في أحد الأيام وصادروا سيارته وبضاعته، ووجهوا له تهمة حيازة بضائع مهربة، ومزاولة عمل دون ترخيص".
"هنا بدأ صبر عماد ينفد مع تنامي شعوره بالعجز عن توفير قوت أطفاله من جهة واستحالة عودته لمزاولة مهنته الأصلية كأستاذ جامعي من جهة أخرى، فاضطر للاقتراض مجدداً، وساعدته في شراء دراجة نارية بقيمة 900 دولار دفعت فيها شيكات تسدد على أقساط شهرية، وعاد عماد لسالف نشاطه في عالم التجارة الموازية المحفوفة بالمخاطر، لكن هذه المرة كانت الرحلة الأخيرة التي قطعها قبل عيد الفطر بيوم واحد، حين قرر السفر من بنزرت إلى صفاقس، وقطع مسافة 250 كم على دراجة نارية وهو صائم ليجلب بضائع يبيعها يوم العيد"، تستطرد أرملة الفقيد.
عنف جسدي وإهانة
عماد قام فعلياً بشراء بضائع مهربة وعاد أدراجه إلى العاصمة تونس باتجاه بنزرت لكن قبل خروجه من صفاقس وتحديداً بجهة "الحنشة" أوقفته دورية للشرطة وقامت بمصادرة دراجته النارية وحجز بضاعته، لكن هذه المرة كانت المعاملة "مهينة"، كما تقول أرملته، موضحة: "اتصل بي عماد وبصديقه عماد بن مفتاح في مدينة بومرداس القريبة نسبياً من صفاقس فجر الثلاثاء وهو في حالة نفسية سيئة، وقال لصديقه بالحرف الواحد: شتموني وضربوني وقهروني..، وطلب من صديقه القدوم لاصطحابه من الحنشة بعد أن حجز الأمن وسيلة تنقله وبضاعته، وكان منفعلاً ومقهوراً بسبب تعرضه للتعنيف الجسدي واللفظي".
تؤكد آمال أنه "بالرغم من محاولات عماد المتكررة التوسل لرجال الأمن لإعادة دراجته النارية التي لم يسدد ثمنها بعد، غير أن طلبه قوبل طلبه بالاستهزاء والرفض، ما دفعه في لحظة يأس وجنون إلى جلب كمية من البنزين وصبّها على كامل جسده، ثم إضرام النار فيه أمام مركز الشرطة وعلى مرأى ومسمع من رجال الأمن، لينهي حياته على هذه الشاكلة"، حيث تم نقل الفقيد إلى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس ليفارق الحياة يوم الجمعة 8 يوليو/تموز متأثراً بحروقه البليغة في كامل أنحاء جسمه، تاركاً زوجة و3 أطفال يتامى.
عزاء مقتضب من الوزير
وزير التعليم العالي شهاب بودن علق مساء الثلاثاء على حادثة انتحار الأستاذ الجامعي عماد الغانمي خلال جلسة استماع له بمجلس النواب باقتضاب مبدياً "أسفه" لحادثة وفاته مقدماً تعازيه لأسرته ولكل الأسرة الجامعية بحسب ما نقلته صحف محلية.
أما رشيد عثمان، أحد الأصدقاء المقربين لعماد وشريكه في معاناة إقالة الأساتذة المتعاقدين، فيقول: "من سخرية القدر أن عماد كان دائماً في الصفوف الأولى للدفاع عن زملائه المفصولين، حيث تزعم في أكثر من مناسبة تحركات احتجاجية للأساتذة الجامعيين المتعاقدين من أمام وزارة التعليم العالي، وأخرى في مجلس الشعب، وكان دائماً يرفع من معنويات زملائه ويدعوهم لعدم التنازل عن حقوقهم".
فيديو لعماد البوغانمي خلال مشاركته في وقفة احتجاجية إثر فصله وآخرين من التدريس الجامعي بقرار وزاري:
احتجاج وجنازة رمزية الخميس
رشيد أكد أن زملاء الفقيد وأسرته ولفيف من المجتمع المدني والنشطاء سيقومون غداً الخميس بتحرك احتجاجي أمام وزارة التعليم العالي، تنديداً بما آل إليه وضع الأساتذة الجامعيين المتعاقدين، والذي وصل حد الانتحار بسبب انسداد الأفق – حسب وصفه – كما سيتم تنظيم جنازة رمزية في ذات اليوم تكريماً لروح زميلهم.
ويختتم قائلاً: "نحمل مسؤولية وفاة زميلنا لوزير التعليم العالي شهاب بودن، حيث نبهنا سابقاً من تنامي حالة الاحتقان في صفوف زملائنا بسبب الوضعية الكارثية التي بتنا نعيشها بعد قرار فصلنا من التدريس".
مأساة 2600 أستاذ جامعي
فصول قصة عماد التراجيدية هي واحدة من 2600 مأساة يعيشها أساتذة جامعيون في تونس أنهت وزارة التعليم العالي تعاقدها معهم بشكل اعتباطي بحسب الأستاذ الجامعي رشيد عثمان وهو أحد الأصدقاء المقربين من الفقيد عماد الغانمي والذي وجد نفسه بدوره عاطلا عن العمل ويقول ل"هافنغتون بوست عربي": وزير التعليم العالي شهاب بودن قرر خلال هذه السنة الجامعية طرد جميع الأساتذة الجامعيين المتعاقدين بتعلة ترك الفرصة لغيرهم من الشباب فوجد 2600 أستاذ جامعي متعاقد في تونس أنفسهم عاطلين عن العمل بين ليلة وضحاها 70 بالمائة منهم متحصلون على الدكتوراه ".
من سخرية القدر كما يقول عثمان أن صديقه الراحل عماد كان دائما في الصفوف الأولى للدفاع عن زملائه المفصولين حيث تزعم في أكثر من مناسبة تحركات احتجاجية للأساتذة الجامعيين المتعاقدين من أمام وزارة التعليم العالي وأخرى في مجلس الشعب وكان دائما يرفع من معنويات زملائه ويدعوهم لعدم التنازل عن حقوقهم .
سخط على الشبكات الاجتماعية
حادثة انتحار هذا الأستاذ الجامعي خلفت ردود فعل كثيرة على الشبكات الاجتماعية، حيث حملت جهات نقابية وحقوقية مسؤولية انتحار عماد لـ"الدولة ووزارة التعليم العالي":