كعادتها ما زالت تستيقظ باكراً؛ لتعيد تفاصيل يومية روتينية اعتادت فعلها منذ عشر سنوات.. تفاصيل لم تكن يوماً على خارطة أحلامها، بل حياة لم تكن يوماً على خارطة أحلامها.. تركت الدراسة في سن مبكرة بناء على طلب والدتها؛ لتتجهز للزواج من الشخص الذي وقع الاختيار عليه من جميع مَن حولها إلا هي.. قبلت الزواج وهي التي لم تكن تدرك أنها آنذاك قد حكمت على نفسها بالعبودية لتصدق بالفعل عبارة "قفص الزوجية".. وكالكثير من بنات جيلها حينها وضعت أحلامها جانباً؛ لتعقلها على شماعة ما يعرف بـ"فارس الأحلام"، كأني به سيأتي حاملاً المصباح السحري ليحقق أحلامهن.
كعادتها وككل صباح، ترتب هذا وذاك وتنفض الغبار عن زوايا منزلها، وهي التي تحتاج أن تنفض الغبار عن زوايا قلبها وروحها وعقلها، عن أحلامها التي بدت عليها آثار السنين وانتشر فيها الصدأ كالمرض المزمن الذي ينبئ بالموت البطيء.. أن تنفض الغبار عن عقلية مجتمع بأكمله لطالما صنفها في خانة الناقصات، ناقصات عقلاً وديناً وروحاً وطموحاً.. مجتمع ما زال يحفظ أن النساء ناقصات عقل ودين، ويجهل باقي الأحاديث النبوية.. أن تنفض الغبار عن عقلية مجتمع بأكمله ما زال يتفنن فيه الرجل بلعب دور "سي السيد" وما زالت تتفنن فيه المرأة في لعب دور الجارية بامتياز.
وكعادتها وككل مساء يقترب موعد عودته فتتجهز لاستقباله، ترسم على شفتَيها ابتسامة زائفة لتوهمه بأنها تمارس أرقى طقوس السعادة الزوجية، وهي التي توهم نفسها ليس إلا.. تتجرد من تعب يوم كامل.. من تعب عشر سنوات مضت.. تتأنق وتتزين لبضع لحظات وتصنع من نفسها امرأة لبضع ساعات، لكنها تفعل ذلك كرهاً وليس طوعاً فقط لترضيه فهي التي منذ عشر سنوات ما زالت تخاف منه لا عليه.
وما زالت ابنتها الصغيرة هي أملها الذي يتجدد كل يوم، هي أحلامها التي تخلت عنها ذات يوم.. لطالما كانت تخبرها بكل ما يعجز لسانها عن البوح به لغيرها، بكل ما تخبئه داخلها وهي التي تعلم جيداً أن ابنتها ما زالت عاجزة عن استيعاب ما ترويه لها..
قالت لها ذات مرة كأني بها تعاتب نفسها: "لا تكوني مثلي يا صغيرتي.. أطلقي العنان لقدراتك لتتجاوز سقف منزلك، لتتجاوز نافذة المطبخ.. كوني أنت كما أنت، امرأة لا تشبه الكثيرات.. اطرقي أبواب النجاح والعمل والتميز والإبداع.. اطرقي أبواب الحب بثبات.. اختاري حياة كالحياة ولا تكوني نسخة شرقية مستهلكة منذ عصور الجاهلية.. كوني امرأة تليق بالقرن الواحد والعشرين.. ولا تكوني مثلي..".
هكذا كانت تعاتب نفسها من حين لآخر، وتبحث في صفحات الماضي عن تلك الأشياء التي كانت تسعدها آنذاك.. عن دفتر الرسم وهي التي كانت تحلم أن تصبح رسامة حين تكبر.. عن ضحكاتها الجريئة.. عن أحلامها البريئة.. عن مقاعد الدراسة التي كانت تشهد تميزها..
ولكن في زمن يصبح فيه للمال سلطان وللزواج عنوان.. "الفرصة".. في زمن تطغو فيه ثقافة الفرصة ويصبح فيه الزواج مجرد عملية حسابية فاشلة بامتياز خالية من كل معاني الحياة، تخلت وفي سن مبكرة عن جميع أحلامها وأشيائها التي كانت مصدر سعادتها ذات يوم، هكذا كانت تعاتب نفسها من حين لآخر عن سوء اختيارها قبل عشر سنوات، وهي التي لم تمارس فعل الاختيار من الأساس.
ربما تأخر الوقت لتدرك أن للحياة مذاقاً أشهى من تلك الأطباق التي تتفنن في إعدادها كل يوم وحدوداً أوسع من غرف المطبخ والنوم.. "ربما تأخر الوقت لتدرك أن الأحلام تفتك ولا تهدى".
وربما تأخر الوقت لتدرك أنها قد أخطأت حين علَّقت الأحلام على شماعة فارس أوهام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.