ربما أكثر لحظاتنا حيرة هي تلك التي تتلاشى فيها القدرة على معرفة ما تريده حقاً.. وما يُريده الشخص الذي طالما حلمت أن تكون..
تتغافل عمداً عن حقيقة واضحة.. تتناسى أنك أنت في الأصل من رسم هذا الشخص وشكله وجعله يُحب هذا ويبغض ذاك، ينظر للأمور بهذا المنظور، أنت من حدد معاييره.. من قولب له مفاهيم السعادة وصورة النجاح، إلا أنه في تلك اللحظات تنعدم القدرة على التفرقة مَن شَكَّل مَن؟ من يتحكم بمن؟ أيُّكما الأفضل، وأيُّكما الأهم، أيُّكما الأحق بالقيادة!
ربما أنت تُمثل القيد الأعتق عليك، ربما تلك القيود نحن من رسّخناها في شخص لا وجود له في العالم المادي، تمثل فيه تركيبة غير واقعية من كل الأشياء التي أردنا لو نريدها، شكَّلنا شخصاً يحب هؤلاء الذين لم نستطع حبهم، يُفضل كُتاباً وددنا لو رأينا فيهم عظمة ولم نرَ، يطرب لموسيقى -هي في الأصل- لا تطربنا، يهتم بالقضايا المهمة من وجهة نظر العالم وهي في الأصل لا تمس أرواحنا، يرى جمالاً في أشياء لا نستشعر فيها جمالاً.. شخصاً يجمع بين الأشخاص الذين أحببناهم والأشخاص الذين تمنينا لو نحبهم، يحلم بأحلام أكبر، يَمرح في درب ضيق لم ولن نتمكن نحن من السير فيه..
شخصاً أقوى، أكثر شجاعة وجرأة، أكثر قدرة على كسر الأطر.. كسر القيود، يمكنه تخطي الحواجز النفسية التي احتُجزت فيها أرواحنا، شخصاً يتكلم.. يَبوح.. يَسرد الحَكايا التي انطوى بداخلها كل الألم ولا يقتطع منها شيء.. إراداته أقوى..عزيمته أعتى لا تستوقفه العقبات التي استهلكت منا كل الطاقة، لديه بئر من الشغف لا قاع لها.. روحه ثائرة لا تُسلم لقيد، روح تنتفض لكل المبادئ والقيم التي اعتنقناها.. ولم نستطع الدفاع عنها.. النور في قلبه متوهج لا يخفُت.. الحُلم ما زال ماثلاً أمامه في وضوح وحِدَّة، شخصُ يمكنه أن يصبح كل ما عجزنا نحن أن نكونه.
لوحة تتحدث عن صوت أماكن لم نسمعها وشكل كلمات عجزنا أن نراها، صورة مركبة من أحلام لم تأتي..من أحلامِ لم نحلمها ورأينا أنه كان جميلاً لو حلمنا بها يوماً، أو أحلام لو جاءت على غير موعد كانت لتصبح أصدق من كل هذا الانتظار..
ضالٌّ من ادعى أنه شخص واحد، نحن نحاول أن نكون كذلك، ولكن في الأعماق هناك العديد منّا، نسخاً لنا في مراحل مُتعددة.. مستويات مختلفة من النضج، عقل يفكر ويقنع، وذات تحاول أن تثبت لذاتها أنها ها هنا.. وقلب يحب ويشعر غير آبه بكل ذلك، أشخاص متناقضة تتصارع بالداخل، ثم تعود لتلحم في تصور واحد متناقض متضارب الفكر والمشاعر يظهر من دون قصد، وآخر انتقائي محدد واضح أكثر اتساقاً مع ذاته.. نحاول دائماً أن نكونه.
ربما الأكثر جمالاً بيننا هم الأشخاص الذين تمكنوا من السيطرة على معايير الأفضلية بدواخلهم، من استطاعوا التغلب على شخصهم المفضل ووقفوا في ازدحام الطريق وتشابه عابرينه، معلنين أنفسهم لأنفسهم دون أي خوف من احتمال وجود شخص أفضل في أعماقهم، مُعترفين بأن هذا أجمل ما استطاعوا الوصول إليه بكل فخر وتقدير لكل المحاولات والصراعات التي خاضوها من أجل تلك اللحظة دون أي شعور بالتقصير أو إحساس بالخزي..
إلى الباحثين عن أنفسهم في أنفسهم، إلي السائرين في درب الـ"هو"، إلى أصحاب الأحلام المُتأخرة دوماً.. الحافظين وعدهم في المُضي في بحر الحياة حتى يجدوا مرساهم، إلى من أرهقتهم الأسئلة.. وغادرتهم الإجابات منذ زمن بعيد، إلى التائهين في ثنايا أرواحهم المُتشابكة، إلى من ضلوا الطريق، وإلى من ضلهم الطريق .إلى كل من كسروا الإطار وإلى كل من كسرهم الإطار.. إلى كل المُعلقين بحبال السير آمليين يوماً الوصول، الفاقدين للبوصله، إلى من رأوا الضوء وعجزوا عن معرفة منبعه، إلى المُبعثرين بين جذور الذات والهو والأنا.. إلى الضالين.. إلينا…
وديع سعادة يوماً قال "العالم أوسع مما ينبغي، والذات أضيق مما ينبغي.. الأول ضلالنا، الثانية ضالتنا".
فاللهم نعوذ بك من شر الضلال، وسوء الانتظار وفقدان السؤال،اللهم اجمع علينا ضالتنا وأرشدنا بنورك في تيه الروح وشتات العقل وغياب الذات وعتمة الخوف والخزي والانحسار..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.