مرقت سيارتي بجوارهن، لم تكن إلا ثانية أو اثنتين على الأكثر هو الوقت الذي بادلتهن النظر، نفس النظرة الفارغة التي لا تحمل أدنى تعبير، تقابلها نظرة متفحصة مستغربة تحاول أن تسبر غور كل واحدة من النسوة الخمس الملتفات بالسواد، سواد نظيف مرتب، فالأسود كالأبيض تماماً لا يواري الاتساخ ويعكس الإهمال بكل جرأة.
توليفة غريبة من النسوة اصطففن تحت الكوبري. لا يبالين بالمارة في سيارتهم يقطعون الطريق أمامهن رامين نظرات تتراوح بين الفضول والاستياء أو يبادلوهن نظرة اللا شيء.
ماذا يفعلن ولماذا يجلسن متباعدات وكأن من أجلسهن موظف من مصلحة المساحة، قسم بينهن بتساوٍ يستحق الإعجاب.
تلك العجوز جامدة الملامح، التي ما زالت تحمل أثراً من جمال وكبرياء، وتلك الجميلة التي تحمل ملامح منمّقة، في إسدالها الإيراني الذي كان كالإطار للوحة جميلة من الألوان أبرزها الحمرة التي لونتها الشمس بعناية. ماذا تفعل تلك الجميلة هناك. لماذا لا يجتمعن ويسلين بعضهن بدلاً من الفرقة والوحدة، ولما بادلنني نظرة الفراغ بينما مدّت أرواحهن أذرعها تحاول التعلق بنفسي المتسائلة في إلحاح عن سر النسوة الخمس الجالسات تحت الكوبري.
مسحت الغبار العالق بزجاج السيارة ورمقت سائقي شذراً، برطمت بكلمات توبيخية للسائق بينما كنت أفتش حقيبتي "السينييه" بحثاً عن مناديل مبللة لتنظيف يدي.
نظرت من الزجاج وقد عبست حواجبي اشمئزازاً من التراب العالق بيدي.
لمحته وقد افترش التراب وانغرزت بجسمه الواهن بضع من حصيات قاسية لم ترحم ذلك الثوب البالي فاقتحمت ثقوبه اقتحام النيازك النارية لغلاف جوي كل تحصيناته من غاز. فتفتت النيازك الأسفلتية على غلاف من مزيج من الموت والسبات.
بينما الحتف قيظ ظهيرة يوليو/تموز فكان برداً وسلاماً، مددت يدي وقد تنملت أطرافها وأصابها خدر هو مزيج من الحمد والألم والإحساس بالذنب. زدت درجة تكييف السيارة وأغمضت عيني بحثاً عن السلام والاستغناء الذي وصل له هذا الجسد المسجى تحت الكوبري.
أيقظتني من شرودي نقرات سريعة على زجاج السيارة، رفعت بصري وجلة، فوجدتها فراشة جميلة، تدق زجاج السيارة وتشير بإصبعها لفمها في رسالة على أنها جائعة، نهرها السائق لتبتعد فرمقته بغضب نمرة دخل حيوان مفترس منطقة نفوذها محاولاً الحؤول دون فريستها، تلقى السائق النظرة في قلبه، فاشتعل صدره غيظاً وهددها لتبتعد، بنفس جرأة النمرة التي لا تبغي ترك فريستها ومنطقة نفوذها لوحيد قرن يتباهى بحجمه وقرنه، رمته بكلمات توبيخية بعضها نابٍ، هنا انتفض جسد السائق من الغضب لكن جملة آمرة وإشارة من يدي أوقفته عن أن يبقر بطنها بقرنه الملتهب غيظاً.
ما إن سمعت صوتي الآمر ورأت ابتسامتي المتعاطفة، حتى تحول مستر هايد فيها إلى الوديع دكتور جيكل، وعادت فراشة وديعة واصطنعت ابتسامة وأشارت بإصبعها لفمها مرة أخرى في وداعة طفل لم يتعلم الكلام، وكأن أذني كانتا من عجين عندما تنمرت منذ ثوانٍ قليلة فائتة، ابتسمت لها وفتحت زجاج السيارة وناولتها جنيهات اختطفتها وطارت، حلقت بأجنحتها تبحث عن رزق آخر وفريسة أخرى تحت الكوبري.
غارقة في همومي التي أحالت ظهيرة يوليو ظلاماً داخل سيارتي، أغمضت عيني في مزيد من رغبة الانسحاب من العالم، وفجأة أحسست بطاقة خفية تدعوني لأفتح عيني وأنظر من نافذة السيارة، ضحكته أضاءت المكان، خطف قلبي ابن العامين الذي ترك الجميع واختار أن يشرق بابتسامته الحلوة في عالم سيارتي المظلم، حالة مفاجئة من الانتعاش انتابتني، تشبه تلك التي نراها في إعلانات المياة الغازية في نهار رمضاني قائظ.
التفت يتعثر في مشيته ونحى بجانبه عني، حرمني من متعة ابتسامة أخرى، دبدبت بقدمي في أرض السيارة وصرت أشير له بيدي بحركات حماسية عله يراني ويمنّ عليّ ببسمة أخرى تضيء سمائي، لم يعرني انتباهه، لكن امرأة ترافقه لا أظنها بملامحها الجامدة أم هذا الملاك لحظتني، جذبته بعنف شق صدري ألماً، هممت بفتح باب السيارة لأفترسها بأسناني، لكن إشارة المرور فتحت والسيارات خلفي رفعت صوت أبواقها فانطلق سائقي بالسيارة دائساً على قلبي مانعاً عني النفس، وتركته هناك تحت الكوبري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.