يأتي كل عام ليعطينا الأمل في أننا كما كنا قادرين على حبس إرادتنا عما تشتهي، نحن قادرون كذلك على استرداد حريتنا واسترجاع قدرتنا على العيش بحرية، دون اعتماد على موجود مفقود أو مفقود غير موجود.
علمني رمضان أنه لا صاحب في الدنيا إلا الله، هو الصاحب في السفر وما الدنيا إلا سفر في صحراء فانية حبات رمالها. علمني رمضان أنه لا إله إلا الله، وأن تلك الشهادة هي مركزية الكون ومبتدأ الأشياء ومنتهاها، قد فاز من فاز بها وقد هلك من لم يدركها.
علمني أنه يأتي فرصة سنوية ليعلمنا أن الإقلاع عن التدخين ممكن، ليعطينا درساً في أن كل شيء سوى وجه الله لا يدوم وأن الاعتماد على غيره اعتماد على وهم، وأن الركون لسواه ذلّ، وأن الخضوع لغيره استعباد، وأن الحرية لا تدرك إلا في الاستسلام له.
علمني أن الناس لما مدمنون له عبيد، فمنهم من استعبده فنجان القهوة، ومنهم من تحكّم في مزاجه الطعام، ومنهم من ظن أن الحياة لن تستقيم سوى بمن وما يحب. يأتي رمضان منجاة للقلب الذي استُهلكت أروقته في كل ما دون الله، يأتي تحريراً للصائم من مفطرات الدنيا وما أكثرها.
علمني أن الصيام عبادة كاشفة لحقيقة الدنيا، فكم من مُفطر متخفٍّ تحت عباءة الصيام يأكل ويشرب خلسة والله وحده يراه، وهكذا هي الدنيا لا نرى فيها ومنا إلا السطح، ولا نرى مما حولنا إلا وجوههم التي تخفي وراءها قصصاً وأحلاماً وأحزاناً وأوهاماً وحيوات كثيرة لا يعلم عن أغوار النفس فيها أحد إلا الله. هو، هو وحده فقط يرانا من الداخل، هو وحده يرانا في السر والعلن، هو الصاحب حين يبتعد كل شيء وهو الوليّ حين يتخلى كل وليّ، وهو السميع حين ينشغل الناس بضوضائهم، وهو العليم حين يحكم الجهلاء مثلنا على الأمور بظواهرها، هو المتفرد في العلو الحكمة والجلال سبحانه لا إله إلا هو إنا كنا من الظالمين.
علمني رمضان أن الشياطين وإن صُفدت فإن القرين لا يُصفّد وأن وساوس النفس أقوى من وساوس إبليس، وأن اللوم لا يكون على من أقسم بأن يُدخلنا جهنم، ولكن اللوم على مَنْ عرف ذلك وأذعن له. علمني أن الإنسان كائن حر وأن الله قد كرّمه بهذه الحرية وجعل مشيئة الإنسان مرهونة بالعمل والمآل، فحين أمر الله الناس بالصوم في رمضان لم يحرمهم الرزق ولم يفرض عليهم الصيام بالقوة الجبرية ولكن بقوة الوحي الذي نزل على الأرض ليخرجها من ظلمات الإنسان لنور ربها.
إن الله لم يرفع الرزق من الأرض خلال رمضان لنصوم بل كرّمنا بالحرية لنتوقف طوعاً عما أمرنا به. فهل مثل كرم ربي الكريم من كرم؟ وهل مثل تكريمه للإنسان تكريم؟ وهل مثل رمضان شهراً؟ فهو عيد لنزول القرآن من السماوات السبع للأراضين وما فيها، وإنه كلام الله لعباده وإنه رسالة ربي إليّ وإليك فتبارك الذي لا ينسانا وإن نسيناه ولا يمنع رزقه عنا وإن امتنعنا عن طاعته ولا يخيب رجاءنا وإن خابت أعمالنا ومقاصدنا.
علمني أن كل المحسوسات زائلة وكل اللامحسوسات خالدة، وأن الطاقة هي لغة الكون ومكنونته. والمتأمل لأحوال الأشياء من حوله سيعلم أن كل شيء تُفرغ طاقته ثم يتم شحنها، فهل جهاز هاتفك أغلى عندك من قلبك؟ من يشحن القلب الذي يخور ضعفاً وغفلة وفزعاً إلا هذا الشهر الكريم المُزود بطاقة من السماء يشحن بها القلوب الفارغة ويقر بها الأعين الشاردة ويُشحذ الهمم ويجدد العهود ويزيل الغبش والران عن القلوب وينادي للناس: هذا موسم الجنة فأقبلوا على أبوابها.
علمني رمضان أنه يأتي دوماً في الوقت المناسب، كأنه على موعد مع أصحاب القلوب المثقلة بويلات الأرض فيأتي مفعماً برحمات السماء وسكنات السماء وبركات السماء، ويأتي موسماً للأفراح فتُغيَّر فيه ما قدر الله للأقدار فيه أن تتغير، وتُفتح فيه أبواب الدعاء التي أغلقتها الذنوب، ويُستجاب للعباد، وفيه من الأيام أفضلها وأحلاها، فكم من عبد اصطلح فيه مع الله، وكم من بدايات كانت فيه للجنة، وكم رقاب اعتقت من النيران، وكم كُتب فيه للعباد من خير.
علمني رمضان أن رمضاء الدنيا أهون من رمضاء الآخرة، ودعاني برفق للخوف من طول الوقوف في يومٍ لا يعلم مقداره إلا الله، تُقصره الطاعات وتطيله الذنوب. علمني أن الله خلق لنا في دنيا النواظر أشياء نستدل بها على الآخرة لتدرك عقولنا القاصرة ما نحن مقبلين عليه في الآخرة من غيبيات، فنار الدنيا نعرف منها نار الآخرة، ونعيم الدنيا نتذوق به بعضاً من نعيم الجنة، وعطش الدنيا نتخيل به عطش القيامة وهول انتظار الأهوال في الدنيا ينذرنا عن هول المطلع.
فكيف لنا من سبيل للنجاة في هذا اليوم القريب البعيد ونحن نكاد نسقط من فرط التعب إن طالتنا حرارة الشمس بضع ساعات وهي ما هي في ابتعادها عن الأرض، فكيف بها إن اقتربت ودنت من الرؤوس واشتد الزحام؟ والله لا أرى إلا ظل عرش ربي حينها منجاة، اللهم اهدنا لنكون من القوم الذين تظلهم بظلك يوم لا ظل إلا ظلك ونجنا برحمتك فإن عظُمت الذنوب فعفوك أعظم.
علمني ربي أن كل ما حدث كان يجب أن يحدث، وأن كل مفقود كان يجب أن يُفقد، وأن كل دمعة كانت يجب أن تُسكب كي أعلم علم يقين لا يشوبه ظن أو شك أن الله واحد أحد لا يتغير ولا يعير، وأن الناس يعيرون ويتغيرون وفي طباعك يغيرون، كان لا بُد هذه الأحزان أن تنزل على ضفاف القلب وتنصهر فيه حتى يخلع قبضته التي نزل بها من رحم أمه وأمي ويستعد لذاك اليوم الذي يخور فيه الجسد وتلتف فيه الساق بالساق وتترك اليد مفتوحة أصابعها في وضع الاستسلام، خالية من كل ممسوك، متجردة من كل الماديات التي لهثت وراءها، لا تملك إلا ما قدمت.
أشهدُ أن كل ضربة جاءت كانت مستحقة، وكل ألم كان يسبقه طول أمل في الدنيا وكل احتراق كان قد انشبه نور شررِ خُدع القلب به واستكفي به من دون نور الله الطيب الشافي. أشهدُ أنه أراني السبيل وإن ضللت، وأنه علمني عنه وإن جهلت، وأنه أفاضني بكرمه وإن عصيت. أشهدُ أنه ربّاني بالكسرِ وبالجبر وبالعطاء والمنع وبالفقدان والجمع. أشهد أنه أكرمني رغماً عني وكشف عني في الظلماتِ ما قد حجب وأنه هو الله لا إله إلا هو ليس له شريك ولا كُفو ولا أحد.
علمني رمضان أن الروح تشتاق للخروج من مثقلات الجسد، وأن أنينها الذي نسمعه طوال العام يكاد تضج به الأرض من فرط ما فيه من وجع، ذكرنا الله برفقه ووده ولطفه بكل نعمائه علينا وبالطيبات التي تجود بها الأرض كل يوم فاستمر العطاء وكان للإنسان حرية الامتناع مفازة بالتقوى.. وكأن مصيرنا معلق بأفعالنا وحريتنا، وكأن من تكريم الله عز وجل للإنسان في العبادة أنه لم يقهره عليها بل دعاه لها وحببه فيها وطمّعه في أجرها وثوابها حرصاً على سلامته ونجاته.. وما يفعل الله بعذابكم إن آمنتم وشكرتم؟
علمني رمضان أني بخير طالما كنت مع الله، وأن رمضاء الدنيا ستمضي كما مضت ما قبلها وأن باب الريان مطمعي ومأمني ومبتغاي.
كم علمني رمضان وكم علمني رب رمضان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.