راسلني جهاد زميلي بالمخيم يسألني أين بقية الحكاية؟ في حث منه على الاستمرار.
أخبرتة أنها على وصول، لم أكن كتبت حرفاً حتى سأل، كنت أعلم أن وجود رفقاء على الطريق تنعش ذاكرتي وتشحذ طاقتي، وغيابهم يلُفني بالصمت.
كان علينا أن نجتمع فقد وزعنا على أربع مجموعات، على كل منها أن تخرج بفكرة تصلح لفيلم وثائقي، ومن ثم نراجع أستاذ أسعد لنبدأ العمل عليها، لم أكن أعرف مجموعتي سلفاً، بل ربما لم أتكلم معهم قبل أن يضمّنا فريق واحد (معاذ الذيب، باسل الدبعي، نشوى، معاذ المناعي).
ويسير اليوم ما بين مناقشات ومشاهدات لأفلام تعرض ونسمع تحليلها ونستفيد من عرض وحيد لمعلومات هامة عن التصوير من واقع تجربته، ربما كنت أتمنى لو كانت محاضرته أطول، وبها شرح عملي، رغم أنه لم يتوانَ عن أن يجيب عن استفساراتنا عن الإضاءة والكادرات وقد كانت أسئلتي كثيرة في هذا الشأن، وهو ما كان يثير دهشتي فأنا لا أحمل كاميرا، بل إنني لا أحب التصوير أصلاً!!
لم نجتمع معاً نناقش أفكارنا حتى جلسنا مع جميع المجموعات، وهي تعرض أفكارها، كان لكل واحد منا فكرة واضحة عَرَضَها مباشرة أمام أستاذ أسعد، لم نعرفها منه قبل عرضه، بل هناك أفكار ولدت أثناء العرض ونقاش المجموعات، طرح باسل فكرته التي تتضمن رغبته في تعلم التصوير فيلماً.
فتاة صغيرة تخفي وجهها بيديها عندما تواجه الكاميرا، إلى هناك عادت مخيلتي وأنا أنظر لباسل وهو يطرح فكرته بمنتهى الهدوء، واضعاً قدماً فوق أخرى، ومعاذ المناعي يؤيده وهو غير منصت لاعتراضي أنا ومعاذ الذيب.
كان الاحترام والمرح يلفنا جميعاً، نتفق ونختلف ونضحك، هذا كان شعاراً لم نضعه لكننا عشناه.
كانت مشاعري متضاربة؛ كيف أكون جزءاً من فيلم وإخوتي يشكون أني لا تجمعني بهم صور، كانت قصص زملائنا متنوعة وجديدة، وكانوا يعملون بدأب وتبدو عليهم علامات القلق..
تلى ذلك جولة بمعالم القرية؛ حيث توجد الطواحين والفلاحون وجسر فوق النهر علينا عبوره، وبكل ركن قصة جديدة، وخلف كل فريق حكاية، ووراء كل كاميرا عين حساسة وقلب يعافر.
كنت ممتنة لهذه الأخوة التي جعلت من العمل متعة، ومن التعلم مغامرة، كنت أتعلم كيف أتعامل مع اللقطة وكيف أعرف أن الصورة جميلة ما بين إصرار وتعب وملل وضحك واعتراض واتفاق تطورت الفكرة إلى أفكار، وبين ثلاث كاميرات تراقبني كان معاذ الذيب يخاف أن يؤثر ذلك عليَّ فلا أظهر بعفويتي.
كم كانت تستفزني هذه الكلمة، طمأنتهم أن الكاميرا أخرجت إجابات عن أسئلة هربتُ منها سنين، لقد كنت أنظر لنفسي متعجبة كأني أراها لأول مرة أنظر لصورتي وأخاطبها؛ منذ متى لم نتصالح ونفتح باب الود وندخل لتلك المناطق المجهولة التي آثرتُ دوماً البعد عنها.
هل تضعنا صورنا أمام أمور لم نحسمها داخلنا، فغافلتنا على صفحات وجوهنا وهزمت بريق أعيننا، هل واجهتنا بخوفنا الأبدي من الجلوس بمفردنا مع أنفسا تحاشياً من عتاب لا بد آتٍ.
هل رغبت حقاً في تعلم التصوير أم رغبة في الوقوف على مفردات حياتنا وتناقضها؟
هي أداة نسجل بها تاريخاً يعاد تشكيله من جديد حولنا، أداة نتحرر بها أم نسجن داخلها، هي صورة نحرص على نقلها بأمانة أم نخترق بها خصوصية من حولنا؟
مع السفر تختبر خوفك، فتكتشف أن كثيراً مما عشت عمرك تخشاه ليس حقيقياً، وأن ما يستحق قد لا تدركه، تؤمن أن عليك أن تصدق هذا الصوت الضعيف الذي يضيع مع ضجيج مخاوفنا، فنهمله ونؤجله لنستمر في البحث عنه.
يدور الأمر بداخلي الآن كثيراً وأنا أتذكر الأوقات التي قضيناها معاً، وباسل يخبرني أن له ولداً يسمى معاذ، ما هذه المفارقة يا ربي؟!، ويريني صور بناته، ومعاذ المناعي يشاركني في خططه التي ننفذها معاً قبل عودتنا إلى بلادنا، ومعاذ الذيب الذي كان يسألني دوماً: "نشوى، هل أنت مبسوطة"؟
لماذا إذن أخاف أن تجمعني الصور بأحدهم؟
هل أتجنب مداهمة الذكريات؟ وما لي أستدعيها الآن؟
سوف أخبرك يا جهاد أن هناك تشابهاً يجمعني بالسمكة (دوري) في الفيلم المعمول عنها حديثاً، تلك التي تحمل ذاكرة ضعيفة مؤقتة وتعود لها تدريجياً مع حنينها لوالديها. وفي رحلة البحث عنهما تكتشف أنها لم تكن ضعيفة ولا خائفة، وأنها تحمل جرأة الأطفال، فكل ما تفكر فيه تفعله. غير أنها لا يعلق بذاكرتها سوى القليل الذي يتجدد مع حنين إلى الماضي لا تملك أمامه حيلة، وفي رحلة البحث تلتقي بصداقات الطفولة، وتمر بالأماكن التي لعبت فيها، وتتذكر علامات وضعها والداها على الطريق لها لتعينها على العودة. غير أني يا جهاد مثلك ومثل كل عربي؛ يحزنني ما نسمعه يومياً عن محو لذكرياتنا وحكاياتنا، وتبدل أماكن جيراننا الذين توزعوا على البلاد، ولكن لم توضع لهم علامات ليعودوا إن أرادوا العودة ذات يوم.
مثلك أنا، أعتقد أنه ليس لنا في هذا العالم إرادة، في نهاية الفيلم، يقف صديق الرحلة مع (دوري)؛ ليخبرها أنها استطاعت أن تفعل ما أرادت، ولكن بطريقتها الخاصة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.