غرباء..

إننا نعيش في عالم يحولنا إلى "أشياء" مادية، مجرد مساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، عالم تهيمن عليه رؤية مادية للكون، عالم يحوّل الإنسان المتزن لشخص أقل إنتاجيته كلما كانت أهدافه أكثر عدالة وإنسانية..

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/01 الساعة 05:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/01 الساعة 05:05 بتوقيت غرينتش

في البداية.. القراءة مع الموسيقى قد تُحدث فارقاً

مضى من الوقت أشهر، وما زال القلم عاجزاً عن أن يحتوي تلافيف الحياة من حوله، ما زِلت برغم كل شيء أبحث عن نفسي في أطياف الراحلين وأحلامهم، ومراراً في وجوه الغارقين من أطفال اللاجئين، ثم مرات في دموع الثكالى والمستضعفين.

ربما لم أجد ما بحثت عنه، وربما وجدته فزال فضولي، أو ربما تغير عقّلي فنضّج فكري أو ضمُر.. أو ربما سرقت تلك الأوطان فكري ونضارتي حتي بِت لا أهتم بتلك القضايا السامية من الاحتلال والثوره والشهداء.. إلى غيرها.. ربما لم أعد أهتم بشيء.. لا أدري!

إنني بكل الأحوال ما زلت أقف على أبواب الحياة، لا أستطيع الدخول، ولا أستطيع أن أمتنع عن الوقوف.

إننا نعيش في عالم يحولنا إلى "أشياء" مادية، مجرد مساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، عالم تهيمن عليه رؤية مادية للكون، عالم يحوّل الإنسان المتزن لشخص أقل إنتاجيته كلما كانت أهدافه أكثر عدالة وإنسانية.

وفي عالم يفتقد المعيارية ويدرك رائحة البارود وقصف المباني وتدمير الأوطان وكسر القلوب، لا يمكن الحكم على شيء ولا يمكن التمييز بين الخير والشر، كل ما يمكنك هو رصد الأحداث وحمل عبء الألم وحدك؛ لأن صوتك الذي يصدع جدران جسدك الدافئ مكلوم لا يحرك ساكناً.

ما لا أستطيع استيعابه في السنوات الأخيرة كيف أننا بلغنا هذا المنعطف من الحزن؟ كيف فارقتنا السعادة لهذا الحد؟ كيف تغيرنا لهذا السوء؟ هل وجودنا في عالم مليء بالسواد تمكّن حقاً من أن يجعل منا أشخاصاً آخرين أكثر عدم اكتراثاً وأنانية؟

لماذا لم أعُد أستاء؟ .. كنت مشاعة المشاعر أقذفها في وجه كل نائبة، فأستاء لأقل ما أراه خارجاً عن العدل شارداً عن الحق، سواء على مستواي الشخصي؛ حيث لا نظام إلا القليل وإنما اندفاع في كل وجه، وكذلك على مستوى المجتمع؛ حيث لا شيء في مكانه، وعلى مستوى واجباتي حيث علل وعلل..ربما تعلمت تحت وطأة القسوة والهول العظيم أن أختزن مشاعري، وأن أحافظ على اتزانها فلا تتأثر مهما رأت من الأهوال والمصائب، حتى أصبحت ألقى كل ما ألقاه بابتسامة واحدة تقرأ فيها ما تقرأه.

ما أؤمن به أن في جمال النفس يكون كُل شيء جميلاً، لطالما تأملت في مسيرة الناس ونظراتهم، كيف تتشابه قصصهم، وكيف تقف عند نفس المُنعطف وتنتهي عند نفس النهاية وتشتعل عند نفس الفصل؛ لتشتد بذلك أحداث الرواية، وكأن الأدوار تُعيد نفسها، وكأن الأضواء تزداد وهجاً ويبقى نفس الجمهور يُنصت لنفس الحكايات ونفس الأدوار ونفس التكرار ونفس الأحداث بلا ملل، وكأننا عشنا كل هذه الحياة من قبل بألمها وأملها! ربما كوننا بشراً اجتمعت فطرتنا على أن نرى الأمور بظاهرها، فنطرق الأبواب من الجهة التى اعتدناها، اعتدنا أن ننظر للأمور بنفس الزاوية.. فننتج أفعالاً متشابهة مع الأحداث وأفكاراً نمطية مُعلبة.

لكن برغم ذلك التشابه، فإنني أدركت أن لكل منا ما يسمى بالعمر النفسي أو العمر العقلي، أو أياً تكن التسمية توحد المقصد وكثرت المعاني فضاعت المفاهيم، فلا ينبغي أن نقيس أعمارنا بتلك الأرقام الكونّية، الزمن وتجاربه وخبراته وحدهُ من يصنع أعمارنا تلك، ولو تفكّرنا لوجدنا كم أن العالم داخلنا يختلف كثيراً عنه في الخارج، فنجد أن العمر في الزمن الخارجي ينحصر بالعقل، فندركه بالتحليل والقياس والحساب ونُعبّر عنه بواسطه الأرقام، بينما في دواخلنا نعبر عنه مباشرة بلا واسطة على شكل مكاشفة داخلية لكياننا، وإذا أعطينا المنطق مساحة لوجدنا أن مقدار نضج كل شخص قد لا يعبر بالضرورة عن عمره الحقيقي، فقد تجد امرأة بلغت من العمر العقود وعقلها توقف في العشرين، وفتى في العشرين وقلبه وعقله في الأربعين، مدار الأمر كله يتوقف على قدر السواد الذي يتعرض له الفرد طوال حياته.

ربما أصل المشكلة في كوننا فضّلنا العيش بالوهم، العيش في العالم الافتراضي حتى اقتصرت عقولنا بأن المشكلة خارجه والحل داخله، خدعة كبيرة أسقطنا أنفسنا فيها حتى تبلورت تلك القضايا الكبيرة إلى حروف صغيرة جداً قد لا نكترث لقراءتها بالأساس، البيان وسحره قد يرسم صورة ليست حقيقية لكل منا؛ لذلك كان الحل الأمثل أن نختبئ خلف الشاشات التي تخفي عيوبنا؛ لنصرخ من خلال الحروف أو لنصنع من أنفسنا أبطالاً من ورق، فنبدو أكثر بريقاً في الدفاع عن تلك القضايا الكبيرة، فبذلك نحطاط من أن يرانا الآخرون في قالب غير الذي نرسمه لأنفسنا، هنا.. نجيد المناورة بالكلمات لنخفي السيئ فينا أو نظهره مبرراً عند رؤية التكييف الذي أصابنا بعد متابعة إحصاءات الدم المعهودة في أوطاننا، نحاول الاستحواذ على عطف الناقدين لنا؛ لنجمع في دواخلنا إنساناً راقي الفكر متعجرف السلوك، ثري المعنى، متغير القلب، رائع النظم، حقير البذل، يشهر في ميدان الكلام ألف سيف، لكنها في ميدان العمل صادئة لا تقطع، وعاجزة لا تمنع.

ذكرني الأمر برجُل في الأربعين.. وقف يتأمل ما وصلت إليه بعد أن جاوزت ساعات وساعات في أرصفة الشوارع وحيدة أتأمل دون أن أنبس بكلمة، إلا أن ضجيج العقل قد علا حتى استشعره الغريبُ في صدره "أين كُنت؟ وأين وصلت؟ بالأمس كُنت أكتب عن العشرين من عمري وما امتلكتُ منها شيئاً، مضى عام! وكأني عشتُ فيه قروناً، أو لعلي قد كبرت في عامي الأخير بما لم أكبره في الأعوام التي سبقته، ربما لأني قررتِ للمرة الأولى أن أواجه تحديات الحياة بدلاً من السخرية منها، وأن أنتصر عليها بدل الابتسام عند تلقي ضرباتها، وأن هناك ثأراً يلوح لي وألماً عظيماً يطاردني، وأن قيمتي لا بد أن تضاف إلى معركة الأمة حتى لو بوزن جثتي عند الرحيل.

قاطعني الغريب بصوت أنهكتهُ الحياة: "أوما يُرضيك أن يصطفيك الله في سلك الأولين من عباده الصالحين؟ أوما تدري أن في صبر نفسك يكون كُل ألم عند الله لك حسيباً فتنقلب الدار الصغيرة قصراً؛ لأنها في سعة النفس رغم قدر الابتلاء؟! أوما أوذيَ كل نبي ورسول في قومه وهم أكرم خلق الله على الله؟! أوما دميت قدماه الشريفتان في خروجه من الطائف وسُب وهو خير الخلق؟! أوما كان عُمر أعدل الناس وقُتل؟ أوما كان عثمان أعف الناس وقُتل؟ أوما كان بلال تبكي له الصخرة وما نطق فوه سوى أَحد أَحد؟.. أوما كان لنا من أنهار الدنيا ما بلغ الأندلس وسقطت؟ أوما كان لنا من بلاد المسلمين حتى شُتت أراضيهم وتفرقت كلمتهم وهوت السُلطات بأدنى الحكام على بلادنا فوق العرش؟ أوما شُرد الأيتام بيننا وسقطت ديار بحلب وضاقت الأرض علينا بما رحبت؟ وهوت قذائف صهيون بغزة وعددنا من شهدائنا عداً من الشام إلى مصر إلى بورما إلى أفغانستان من شرق الأرض لمغربها! من ألم الواقع إلى ألم النفس إلى تيه بين الضلوع حتى الخنق! إلى مستقبل مجهول المعالم بين كفتَي واقع مُبهم وسهام من القدر تُطلق! فأي شيء بعد هذا يهون علينا؟!

لنسمح للوجع أن ينساب بين أضلعنا فذلك مما لا بد منه، لكن الوجع الذي يقوّينا، الوجع الذي يُلجئنا إليه سبحانه، الوجع الذي لا انكسار معه ولا انهزام، فلو انكسر أيّ من الذين أوذوا من قبل أو استكانوا لما بلغت الدعوة ما بلغت!

"يا فتاة، في مثل عُمرك وقفتُ هنا، كُنت قد جاوزتُ العشرين أو رُبما هي جاوزتني!، تمنيتُ لو أن غريباً لا أعرفه ولا يعرفني يستوقفني، ويصرخُ في.. اجعلهم ألفَ سنةِ إن شئت!، ابحث عمن توصله أكبر قدر من خير تجعله يحبك به ولا ينساه لك، ابحث عن واحد وعشرة وعشرين، حتى يكونوا لك مقام الولد الصالح الذي يدعو لك!

يا فتاة، إن كان قد مَنّ اللهُ عليكِ بأي نوع من العلم فى رحلة حياتك فلا تحجبِي منه مثقال ذرة، اكتبيه، صوريه، قدميه لمن عرفتِ ومن لم تعرفِي حتى يكون لك علماً تنتفعين به، تصدقي بكل ما امتلكت من مشاعر، بكل بسمة فى ثغرك تستطيعين أن توزعيها أرغفة دفء وحب على وجوه البشر..حتى تكون صدقة جارية لكِ، لا تعيشي لعامين أو ثلاثة ولكن عيشي ليومين.. يومين فقط تجدين أن الحياة كأنها قرنين أو تزيد".

فإني يا أيها الذي -لا تعرفني- لممتنّة لكَ جداً!
مراراً… عن حاجات أرواحنا، عن أسرارِ لا يُدركها إلا البارئ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد