تظل عقارب الساعة عدوي اللدود أراها تتحرك بانتظام معلنة أنقضاء سويعات عمري التي لا أستطيع بأي طريقة أن أجعلها تسكن للحظات وأظل في حيرة من أمري، هل حققت ما كنت أتمناه أم ما زالت لدي أحلام أسعى لتحقيقها؟
إنها الرحلة الأولى لي رسمياً بعد تدريبات ومناورات وحوارات وآهات.. كنت طامحة إلى أن تصبح تلك الرحلة هي الفرصة لخوض تجربة تثمر في ذاكرتي برائحة السعادة، لتطغى على العطب الذي أصابني سابقاً.
في المبنى الفني الخاص بتجمع طاقم الضيافة يوجد مسؤولو قسم التبرج والتزين؛ حيث يتم فحص مظهرنا الخارجي وتحديد هل هو لائق بالصعود على الطائرة أم لا، وكأننا في مسابقة ملكة جمال المضيفات، كثيراً ما يتم استبعاد بعض الزملاء بسبب وجود جرح بسيط أو خدش ملحوظ، ويتم إعطاؤهم فرصة لتعديل شكل الجرح حيث يتم إخفاؤه تماماً بمساحيق التجميل، أصبحت مساحيق التجميل تمنحنا فرص النجاح والعمل.
يبدو أن الأهم من خبراتك العملية أن تكون لديك الخبرة في التجمل بحيث لا يستطيع أحد اكتشاف حقيقتك.. فرصتنا في النجاح أصبحت تكمن في مدى قدرتنا على التجمل وإخفاء حقيقتنا، أصبحت القوة في إخضاع الآخر لسحر جمالنا المصطنع وليس لسحر روحنا النقية.. أتذكر أحمد زكي ابن "التربي" عندما أكتشفت حبيبته أنه من طبقة الغلابه وبرر لها ذلك قائلاً: "أنا لا أكذب ولكني أتجمل".
كان فريق العمل يشعون جمالاً حقيقياً لمسته في ابتسامة آمال مشرفة الطاقم المغربية، وفي لمعة عين محمد الباكستاني زميلي في الطبقة السياحية، سعدت بوجود هذا الجمال الحقيقي الذي تخضع له الروح ويفرز معها العقل هرمون (المحبة في الله).
استمتعت بتلك الحالة من الراحة في وجود زملائي، خاصة مع اندماج الكابتن ومساعده معنا حين قررت آمال أن نحتسي كاس شاي قبل صعود الركاب، كانت فرصة للتعارف… أخبرنا الكابتن أن الأردن، وجهتنا من البلاد العربية الجميلة، وددت أن أزورها يوماً، ولكن للأسف الرحلات القصيرة لا تعطينا فرصة استكشاف المكان.. استعددنا بروح جميلة لاستقبال الركاب الذي كان أغلبيتهم عرباً وقليلات من سيريلانكا، وجدن فرصاً للحياة في بيوت الغرباء، أليست حياتنا جميعاً عبارة عن رحلة بحث عن الفرص المناسبة، فرصة عمل، زواج، سفر، دراسة…
وما الحياة سوى بحر فرص علينا أن نبحث عنها ونقتنصها.
بعد الإقلاع وبعد انتهائنا من تقديم وجبات الغذاء كنت على وشك الخروج من مطبخ الطائرة الخلفي حاملة براد الشاي حينها بدأت يدي في الارتعاش وفي لحظات شعرت كما لو أني في لعبة قطار الموت الذي يسقط فجأة ويسقط معه قلبي، مرت اللحظة بطيئة مثل لقطة من فيلم تم عرضها بالتصوير البطيء وسريعة في سرعة دقات الساعة المنتظمة، وجدت يد محمد تجذبني للمطبخ بقوة كي أجلس وأربط الحزام، ما زلت مذهولة لا أعلم ما يحدث حولي وصوت "آمال" عبر السماعات تقول:
نرجو من الركاب العودة فوراً لمقاعدكم وربط الأحزمة..
لم أعد قادرة على تحمل صوت نبضات قلبي المزعجة التي أسمعها تتصارع مع صوت صراخ الناس حولي، بدأت الطائرة بالتخبط والهبوط فجأة…
لطالما تساءلت هل أنا مستعدة لملاقاة الرحمن؟! كيف سيلقاني ملك الموت وكيف سأستقبله؟ كيف سيكون شعوري حينها أم أن الإحساس ينعدم في حضرة الموت.. وقتها رجوت الرحمن أن يُمهلني فرصة ثانية، لم أكتفي بعد من الدنيا، لم أعمل لتلك اليوم واللحظة، ولكن كيف لي أن أطلب فرصة أخرى وقد بدا الموت أقرب لي من الحياة، ظللت أردد الشهادة ودموعي تنهمر لا أعلم هل كنت أبكي عمراً انقضى أم فرصة في الحياة أتمناها.
في تلك اللحظات مر أمام عيني شريط حياتي القصير، شعرت باللوعة لعدم احتضاني أمي لفترة أطول ولعدم تقبيل يد أبي بما يكفي وعلى ضعف صلتي بالرحمن مهما حاولت الوصل، تحسرت على شبابي الذي لم أستمتع به وعلى قصة حب لم أعشها وذنوب ارتكبتها وصلاةٍ أغفلتها وكلمة طيبة استكثرتها.
أفقتُ من الصدمة على أصوات الركاب التي تحولت من صراخ لدعاءٍ وصلاة وترتيل للقرآن والإنجيل، رأيتُ الأم تحتضن طفلها بقوة تخبئه بين ضلوعها حتى لا يتمكن منه الموت، رأيت تلك الخادمات يخرجن صور أحبتهن ويقبلنها ويحتضنها كما لو كان الوداع الأخير وآخرين يناجون الله أن يمنحهم فرصة أخيرة.. رأيت محمداً زميلي ينظر لي مبتسماً، قائلاً: الحمد لله ربنا ستر.
بعد خروج الركاب جلستُ منهكة بين يدي ممرض يداوي الحروق التي أصابت يدي ويحدثني عن حسن حظي أنها حروق بسيطة سهلة التداوي… جلس كل منا في مكان ما وحيداً يحاول إعادة أفكاره في الحياة، كم كان قريباً منا شبح الموت اللعين، وكم هو مرعب الرحيل فجأة!
كم منا يتمنى فرصة لإصلاح ما أفسد ولإسعاد من يحب ولتقبيل من يشتاق له وللخشوغ في رحاب الرحمن مناجياً وطالباً العفو.
بادرِ الفرصةَ، واحذر فوتَها ** فَبُلُوغُ الْعِزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ
واغْتَنِمْ عُمْرَكَ إِبَّانَ الصِّبَا ** فهو إن زادَ مع الشيبِ نقَص
إِنَّمَا الدُّنْيَا خَيَالٌ عَارِضٌ ** قلَّما يبقى، وأخبارٌ تُقصْ
تارةً تَدجو، وطوراً تنجلِى ** عادةُ الظِلِّ سجا، ثمَّ قلص
فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ ** بادرَ الصيدَ معَ الفجرِ قنصْ
لَنْ يَنَالَ الْمَرْءُ بِالْعَجْزِ الْمُنَى ** إنَّما الفوزُ لمنْ هَمَّ فنَصْ
محمود سامي البارودي
(يُتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.