يحكى أننا أمّة تفخر بالأفعال الماضية، وتكاد تخلو مفاخرها إلا من أفعال تحاكي "كان وكنا وأجدادنا وعظمتهم"..
لا تلبث تغوص معها في جدال حول ما نعيشه الآن حتى تصدح الأصوات بأننا أمة ذات تاريخ مجيد حافل، خرج منه أفذاذ كـ"صلاح الدين"، بطلنا المغوار الذي بات اسمه على كل لسان، وصار طيفه حلماً يراودنا.. ومثل صلاح الدين في تاريخنا كثر.. المشكلة أنّ البكاء على أطلالهم ما عاد يجدي، وحروبنا الإلكترونية وغضباتنا في "بوست" ثائر هنا أو "تغريدة" صارخة هناك لم يعد صلاح ديننا الضائع.. وأصبحنا في مؤخرة ركب الأمم والحضارات..
وكلما همّ أحدهم برفع شعارات التغيير رفعنا له شعاراتنا الفتاكة بأن ماضينا زاخر، وأن (اللي ما له ماضي ما له حاضر)، عجباً وكيف لمن توقف إنجازه بعد ذلك المجد التليد أن يتقدم؟ وكيف لمن نام عن حاضره أن يستدرك ما فاته! كطالب استيقظ على ترنيمات #الفاينل يلوح له بالأفق متوعداً!
انشغلنا بتاريخنا الذي طوته يد الدهر، وبأمجاد عظماء طوت أجسادهم يدُ الردى، لكنّ هيهات للموت أن يقتلعهم من جذور الذاكرة؛ لأن من عاش عظيماً مات عظيماً وخلّده التاريخ عظيماً.. فهل نعيش عظماء كي نأمل أن نلحق بمركبهم.. وهل تراه يسعنا ذلك المركب ونحن اليوم في أحد معتركات واقعنا الذي لا يرحم ولا أظنه يشرفنا؛ حيث البرد يعصف بآلاف اللاجئين، والجوع يفتك بالبعض الآخر، والظلم تكاد لا تخلو منه عاصمة عربية، كيف لا وقد أصبح واقعاً وجاراً لكل حرّ أبى إلا أن يقول قولة الحقّ؛ بل إنّه غدا صفة تلصق بعد أي اسم عربيّ حرّ ليعرّفه ويذهب تنكيره، وتتوالى علينا المصائب والقول واحد هو أنّ الحق سينتصر في نهاية المطاف.
وكيف له أن ينتصر والأمة فيها من يذوق الأمرَّين ويقابله راتع في لذائذ المتع ترى فيها من جفت عروقه جوعاً وحسرة وألماً، وترى الذي أعياه الألم لهول ما أكل! شلالات دماء تنزف هناك وعلى الجانب الآخر استنكارات من فوق الكنب وإن #حميَ وطيس هذه الاستنكارات رأيتها على شكل منشورات فيسبوكية أو لربما تغريدة لطائر تويتريّ مكلوم من آلام أمته..
الأهوال تعصف بنا من كل حدب وصوب، والأصوات تعلو في شجبها ونحيبها متضرعة علّ الله يمن علينا بصلاح دين جديد يخلصنا.. أو لعل معتصماً هنا أو هناك تهب فيه نخوّة العربي الأصيل فيستجيب لصوت حرة صرخة مكلومة وامعتصماه! فلم تجد بعدها سوى العدم وتردد خلفها الصدى.. تلك الحرة التي آثرت أن تجرّب إيقاظ نخوة الرجولة فتفاجأت أن الرجال قلة في يومنا.. وأنّ واقعنا اليوم تبدلت مفاهيمه وما عاد انتهاك الأعراض والحرمات يحرّك سوى الأقلام والتغريدات دون أن يمس الأفئدة أو يغير ساكناً على خريطتنا العربية الضائعة.. التي ارتضت بقولها "تكالبت علينا الأمم وجعلته مسرّيا لها في أتراحها ولم تعلم أنّ عليها أن تعمل.. نعم تكالبت علينا الأمم أفلا نكون أقوى منهم، ألا يحسُن بنا أن نكون كلنا صلاح دينٍ في وجوههم! أو على الأقل نسعى لإعداد أنفسنا لنكون أحد جنده.
واقع أننا نعيش على أمل خروج صلاح جديد يرفع راية الحق دون أن نفكر إن كنا أهلاً لنكون من جنده! ألسنا نبكي هناك على أمجاد حطين ونتباكى هناك؛ حيث بيت المقدس ومجدنا السليب وحقنا الضائع دون أنّ نعدّ لذلك الجيش الموعود.. لربما سيكون جيشاً إلكترونياً ينعى شهداءه بمنشورات حزينة وأخرى ثائرة تطالب بالقصاص.. الأمر أنّنا أصبحنا أمة فيسبوكية مغوارة تشق عباب المعارك في بضعة لايكات ومنشورات وتعليقات تقسم أغلظ الأيمان أنها لن تضيع حق مَن مضوا! وتخرج مواكب المتظاهرين فيها متضامنة فتغير صورتها الشخصية تجلس بعدها تلتقط أنفاسها التي أرهقتها ضراوة المعركة وشراسة العدو!
ألسنا بحق نعاني من أزمة في فكرنا، في واقعنا، في قوقعة تغلفها الأنانية، يرى كل منّا فيها نفسه محرّراً وفاتحاً أو حتى يكتفي بأن يدعو إلى الله على عجالة أن يمن علينا بالنصر وهو غارق في حياته، لا تكاد تتسع حياته لأكثر من دورة طبيعية بيولوجية يقوم بها أي كائن، ولكنه يزيد عليها بمواقع تواصل اجتماعية يحيي فيها ذكرى الشهداء.. وأمجاد العظماء.. ويزيد عليها بقدرته على الشجب والندب والاستنجاد والحزن الطويل على أولئك القتلى وأولئك المعتقلين.. ويكاد يقتله الأسى على أولئك الخاوية أمعاؤهم من ويلات الحرب والحصار.. تمزقه صورة طفلة ذات عينين زرقاوين خطت على بؤبُؤيهما الحرب تفاصيل كالحة من الهمّ.. فيقسم ألا يخرج قبل أن يضع تعليقاً تراجيدياً يعبر عما اعتمله من غم وهمّ، متعللاً بأن أضعف الإيمان #تعليق! متعلّلاً أنّ ما باليد حيلة وماذا عساه يكون باليد إنْ عزم القلب والعقل على التخاذل..
نحن في وقت صعب بالكاد يميز فيه الخبيث من الطيب.. تختلف الوجهات ويبقى لسان الحال يقول:
أين عساك تكون يا صلاح الدين.. أو تكون أرحام الأمهات قد نضبت.. أو يصعب إيجاد مثلك.. والقول يا رفيق أنّ صلاح الدين يرفض أن يأتي ما لم يرَ جيوشاً جرارة تبايعه على الموت في سبيل الحق في سبيل الله! في سبيل كل غاية نبيلة تؤمن أن غايتها الجنة.. هذا شرطه الوحيد.. فهل يا ترى نقبل به؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.