اسمي محمد وأعمل كل الأعمال تقريباً، باستثناء تخصصي هندسة الاتصالات، وأرجو أن أرجع معكم بذاكرتي إلى عام 2008، وقتها كنت عائداً من عمان إلى العقبة؛ حيث ذهبت لعمل مقابلة في إحدى شركات الـ"آي إس بي" (مقدمو خدمة الإنترنت)، طبعاً لأنهم أصدقائي لم يشاءوا أن يخبروني بأنني غير مرحب بي، فقالوا لي للأسف يجب أن تبحث عن شركة أفضل منا، فأنت (over qualification)، وأنا بباص العودة صادفت شخصاً، وقد كنت متحمساً لبدء عمل شركة خاصة بي، وظننت أن عشرة آلاف دولار أو عشرين ألفاً تكفي بالأردن لعمل شركة تدر ملايين، علماً بأن المبلغ هذا لم يكفِ تكاليف الشركة الناشئة التي أسستها مع صديقي لأقل من 3 أشهر ثم أغلقناها.
قال لي حينها هذا الشخص بالباص إن الأمور بالبلد (داون)، وإن الأزمة العالمية سوف تأكل الأخضر واليابس، ونصحني بأن لا أجازف، كان على حق، لقد أصبحنا في خبر كان… الأمور تلخبطت، الاستثمارات تهاوت، والشركات إما فلست أو قلصت أعمالها.
كان هنالك مجالات كثيرة بالاتصالات، شبكات وشركات أبراج وشركات جوال أو موبايل ولكن بعد 2008 أصبحت.. "بح".
الأمر لم يكن فقط في مجال هندسة الاتصالات، فالأمر شمل كل المجالات باستثناء المجال الصحي والمجال الأكاديمي، وكان لا بد من ترك العائلة والالتحاق بسوق العمل الخليجية.
كنا نحلم أنا والعديد من الناس بأن نأت إلى الخليج لعمل ثروة والعودة باكراً لإنهاء مشاكلنا المالية وبناء بيت المستقبل، وإذ بنا نجد أنفسنا موضوعين بخانة موظف بمرتبة مهندس وبراتب لا يكفي إلا تسديد الديون والزواج.
ومع تطور الأمور في المنطقة من حروب طاحنة في فلسطين ومصر والعراق واليمن وسوريا، كان لازماً علينا أن نتأثر نحن وجميع العرب المغتربين، وذلك من خلال الضغط الحاصل على الخليج من دعم للإخوة في اليمن وسوريا وعوامل تهديد محتمل من إيران وروسيا، وانتهاء بعملية ما تسمى الهزة الاقتصادية الخليجية، بعد تأثر أسعار النفط بالأزمات المتلاحقة ووصول الأمور لأن تكون هنالك خطط لتغيير خارطة العمالة في منطقة الخليج كافة وتوطين الوظائف بشكل عام.
مثلي مثل كل الأشخاص الذين أتوا إلى هذا البلد أو ذاك بالخليج، لم يخطر ببالنا أننا سوف نكون تحت ضغط إما القبول بالأمر الواقع أو الخروج "النهائي"، وكنا نأمل أن نكون في وضع أفضل كتأمين سيارة وبيت ومبلغ مالي؛ كي نستطيع أن نبدأ مشروعاً من المشاريع الصغيرة أو نحصل على مبلغ مماثل؛ لكي نستطيع الإنفاق على عائلاتنا لمدة أشهر لحين أن نجد عملاً آخر، ولكن هذه الآمال صعبة التحقيق حالياً في ظل ارتفاع أسعار شراء الشقق أو استئجارها، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المشتقات البترولية في أوطاننا وتهاوي قيمة مدخراتنا على مدى السنوات القليلة.
هَم آخر يضاف لذلك أن الأمور في البلدان العربية التي كانت تساندنا مع الخليج في وضع لا يحسد عليه أحد، فلا سوريا انتهت من جراحها وآلامها ولا العراق عاد عربياً أصيلاً كما كان.
أما عن الاكتئابات التي نعاني منها بسبب الأخبار من الخليج إلى المحيط، فحدِّث ولا حرج، فلا الأخبار تعطينا إلا المزيد من الأحزان ولا الأمور قد قابلت نهاية النفق المظلم في كثير من البلدان.
ختاماً لم يعد بالنسبة للمغتربين بالخليج الآن إلا خيارات قليلة محددة نعمل عليها:
أولها: البقاء على الحالة التي نحن عليها بغض النظر عن المشاكل التي تصادفنا، وما يستتبع ذلك من عدم القدرة على التوفير المالي أو الارتقاء والتطور في التخصص، وعدم القدرة على الاستقلال وازدياد الضغوط والتسبب بالمشاكل الصحية على النحو القريب أو البعيد.
ثانيها: القفز إلى شركة أخرى تكون مستقرة أكثر من الشركة الأولى، وهذا سيكون متوافراً لعدد قليل؛ حيث إن التوطين للوظائف وتقليص الأعمال يعمل بعكس هذا التيار.
ثالثها: البدء بإجراءات الهجرة إلى إحدى الدول الأميركية، الاسنكندنافية أو الأقيانوسية (إن جاز لي التعبير)؛ لكي لا يفوته القطار، على رأي علي عبدالله صالح، رغم ما لهذا الحل من سوء، وخاصة للأشخاص الذين لديهم مسؤوليات أو أقارب كالآباء أو الإخوة، لا يستطيع الاستغناء عنهم ولا هم يستطيعون الاستغناء عنه لفترة طويلة، علماً بأن الخليج كان يمنح الشخص سنوياً شهراً كاملاً لزيارته ذوي الأرحام والبكاء معهم على حظه وحظهم العاثر.
رابعاً: البدء بالبحث عن جامعات أو معاهد لإكمال دراسته العليا، سواء كانت منحاً كلية أو جزئية، وهذه الأمور لن تحصل إلا مع القِلة، وذلك لاستلزامها الكثير من المبالغ المالية له ولأسرته التي تورط وأسسها قبل الأزمة الخليجية.
خامساً: سماح الدول الخليجية ببعض القوانين التي تساعد على تقوية وجودنا في المنطقة، كالسماح لنا بتأسيس الأعمال الصغيرة أو عمل الإقامة الدائمة وإلغاء الكفالة.
أخيراً وأرجو أن أكون منصفاً، فليس كل المغتربين بالخليج بهذا السوء، ولكن من خلال اطلاعي وتفاعلي اجتماعياً مع المغتربين أرى أن معظمهم لديهم الأمور نفسها، ونحن هنا لا نُحمل الخليج أي مسؤولية، فهو بالأخير أسهم في إنقاذ الملايين من الفقر أو العوز، وأنا واحد منهم، ولكن الأمور أكبر منا ومنه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.