اشتق مصطلح "النسوية" "Feminism"، بالأساس، منذ القرن التاسع عشر وبالتحديد في العام 1837 على يد الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه Charles Fourier والمصلح الاجتماعي الويلزي روبرت أوين Robert Owen. وقد تأثر فورييه وتلاميذه بأفكار جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau في موضوع حقوق المرأة، وهو أن جميع الوظائف مهمة، وينبغي أن تكون مفتوحة أمام المرأة على أساس المهارة والكفاءة، وليس على أساس الجنس، وأن التعامل مع النساء انطلاقاً من كونهم أفراداً في المجتمع وليس كنصفٍ لمؤسسة الزواج البشري، وأن الزواج من الممكن أن يضر بحقوق المرأة كبشر، وبالتالي لن تتزوج أبداً.
ومن هنا بدأ فورييه "نسويته" بفكرة تحرير كل فرد بشري (رجل وامرأة وطفل) في نواحي التربية والتعليم، والتحرر من العاطفة البشرية، وذلك بالهجوم على مؤسسة الزواج والأسرة النووية، وتعزيز مساواة الإناث، والمناداة بعلاقات جنسية أكثر حرية وترتيبات جماعية لرعاية الأطفال.
وقد ظهر المصطلح لأول مرة في فرنسا وهولندا في العام 1872 وفي بريطانيا في عام 1890 وفي الولايات المتحدة الأميركية في العام 1910، وقد صاحب مصطلح "النسوية" ظهور مصطلح "النسوي" Feminist للمؤمن/ة أو المؤيد/ة أو الناشط/ة بمساواة الجنسين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وفي العام 1852 أدرج معجم أكسفورد مصطلح النسوية وعرفها على أنها "الاعتراف بأن للمرأة حقوق وفرص مساوية للرجل" وعُرفت بحسب معجم ويبستر على أنها "النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتسعى كحركة إلى تحقيق حقوق المرأة وإزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه، وإلى تحقيق مجموعة من الغايات الاجتماعية وتسهم في بلورة حلول لتطوير أوضاع المرأة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً".
نجحت النسوية كونها حركة ثورية نضالية وفكرية واجتماعية وتنويرية تلتزم بأبعاد فلسفية وفكرية وممارسات سياسية واجتماعية واقتصادية تهدف إلى كسر حاجز البداهات الخاطئة التي تقوم على السيطرة الذكورية في المجتمع من خلال سعيها للدفاع عن حقوق المرأة عبر التأكيد على فاعلية دورها، وقد قامت النسوية بصفتها منظومة ثورية فكرية تدافع عن مصالح المرأة، وتدعو إلى توسيع حقوقها وذلك بهدف أن تحصل المرأة على الحقوق الكاملة ودون أي تمييز بحقها وذلك انطلاقاً من قدرتها على التأثير في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد برزت هذه الحركة الثورية تاريخياً في المجتمع الليبرالي الرأسمالي كونها حركة تسعى لتحرير المرأة في القرن التاسع عشر.
مثلت نهاية القرن العشرين صدمة قوية للنسوية كحركة ثورية نضالية، بظهور العديد من فلاسفة علم الاجتماع الذين قاموا ببلورة وتدشين مدرسة "ما بعد النسوية"، وذلك ضمن مدارس المابعديات التي تقوم على تغيير فهم الأولويات الرئيسية للفكرة؛ حيث يدنو الفصل بأن مدرسة ما بعد النسوية عبر فلسفتها الفكرية الفلسفية تأثرت بتشظي المدارس الفكرية النسوية كالراديكالية، والنسوية الليبرالية، والنسوية الماركسية، والنسوية الاشتراكية، والنسوية البيئية، والنسوية السوداء، والنسوية الوجودية، والنسوية الثقافية. وهذا ما نقل النسوية إلى أن أصبحت تمثل معركة أيديولوجية جرى بصورة عامة جرها إلى حد كبير لمربع نقاشات خلافية حول "الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة والعدل والاغتصاب والثقافة وغير ذلك"؛ حيث استمر هذا الجدل حتى وإن كانت لا تزال توجد فى الممارسة مظالم متعددة ينبغي التصدى لها انطلاقاً من إطار تجريبي.
ترسيخاً على ما ورد، فتحت كتابات إدوارد سعيد في مدرسة "ما بعد كولونيالية" إمكانية قراءة "النسوية ما بعد كولونيالية" انطلاقاً من تحليل سياق الهيمنة الاستعمارية التي لم تلبث أن تركت تأثيرها على سياق البناء الثقافي والاجتماعي والسياسي المعرفي حول نظرية التبادل الوظيفي، وهذا ما ظهر في كتابات رنا قباني، مثل "أساطير أوروبا في الشرق"، وفي كتابات أستاذة الدراسات الثقافية وعلم الاجتماع التركية ميدة يغينوغلو في مؤلفها "خيالات كولونيالية: نحو قراءة نسوية للاستشراق"، وكتابات فرانز فانون و"دراسات التابع" لدى غياتري سبيفاك؛ حيث ربطت هذه الكتابات بين تشكيل المعرفة داخل المجتمع وعلاقات القوة والسلطة في المجتمع نفسه.
وهذا يأتي ارتكازاً على فكرة الدراسات "ما بعد الكولونيالية" التي قامت بتأسيس معرفي نقدي تفكيكي لتفسير مشاركة النسوية في الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي انطلاقاً من أن ظهور نسوية ما بعد الاستعمار كرد فعل رافض لمقولات النسوية الغربية أبقاها أسيرة لفكرة الصراع الجنساني بين الرجل والمرأة، والذي أدى إلى تسقيف مطالب النسوية بإنهاء ما يطلق عليه السيطرة الذكورية مع تحييد اهتمامها لرفضها السياق الاستعماري.
وتحضرني هنا فكرة الأمم المتحدة وهيئاتها "كمنظمة الأمم المتحدة للمرأة" التي تعتبر مع عدد من المؤسسات الدولية الألمانية والإيطالية المتبرع الأبرز لمشاريع المؤسسات النسوية الفلسطينية؛ حيث إن الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات الدولية ومنذ نهاية التسعينات ولغاية اليوم تجسيد حقيقي لفكرة "ما بعد الاستعمار" وما حصل مؤخراً بانتخاب "إسرائيل" لإدارة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة وهي إحدى اللجان الست التابعة للأمم المتحدة، التي تشرف على قضايا تتعلق بالقانون الدولي ومكافحة الإرهاب، وانتخابها في العام الماضي لإدارة لجنة "إنهاء الاستعمار" ما هو إلا يقين على أن الأمم المتحدة لم تتوقف عند إخفاقها في حل الصراعات إنما أصبحت تدعم هذه الصراعات وتوفر لها بيئة قانونية كونها تتعامل مع "إسرائيل" ككيان طبيعي وليس استعمارياً.
وبذلك باتت الصورة للمؤسسات النسوية، وكما أشار ساري حنفي في كتابه الصادر عن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية (مواطن) "بروز النخبة الفلسطينية المعولمة: المانحون، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية المحلية" أن حصول الفلسطينيين على مساعدات دولية ساهم بصناعة نخبة "مدنية" تؤيد السلطة السياسية ولا تقوم بنقد ممارساتها وتقوم على استثناء خطاب التحرر الفلسطيني من ذهنها.
وبهذا يبدو أن النسوية التي نشأت كحركة ثورية نضالية عالمية تخلت عن هذه الثورية وأصبحت تمثل حالة لاستمرار الاعتماد على المال السياسي الدولي، الذي يقود إلى دعم بناء مؤسسات دولة فلسطينية تقبل بالتنازلات على أراضٍ مجزوءة، هذا بالإضافة إلى أن مشروطية المساعدات الدولية، سواء في المجتمع المدني أو الحكومي، لم تخرج عن كونها قائمة على دعم مبادئ وأهداف أبرز مخرجاتها الاحتلال، وأن هذه المنح الدولية أثرت على تصدير نخبة نسائية في مجالات وظيفية عدة تتأثر بالمشروطية الدولية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.