الإرادة الإنسانية في ضوء السنن الإلهية

قال الجبريون: كريشة في مهب الريح حائرة ** لا تستقر على حال من القلق

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/27 الساعة 06:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/27 الساعة 06:50 بتوقيت غرينتش

ما ظُلم مفهوم في تاريخنا -خاصة في فترات التخلف والتراجع- كمفهوم (الإرادة الإنسانية)، الذي شابَهُ كثير من القصور والتخبط، حتي أصبح الإنسان يمشي في دنيا الناس -من جراء هذا القصور والتخبط- كأنه ريشة في مهب الريح حائرة، فهو لا حول له ولا قوة، ولا قدرة له، ولا إرادة، يصرفه القدر حيث شاء، كما قال الجبريون:

كريشة في مهب الريح حائرة ** لا تستقر على حال من القلق

فلا غَرْوَ إن شاعت بين الناس مقولات (هذا نصيبنا، هذا قدرنا، هذا مكتوب علينا)، وغيرها كثير من المقولات التي يستر الإنسان بها العجز والكسل، وتعطي له مسوغاً للهروب من مواجهة أخطائه، ومن البحث عن سبب إخفاقه، فإذا رسب الطالب، لا نبحث عن سبب رسوبه، بل ينسب إلى أقرب طريق، وأسهل وسيلة (هذا نصيبه، وذاك قدره) تريحنا من عناء البحث والمسؤولية، وإذا أخفقت البنت في زواجها، فبدلاً من البحث عن الأسباب، والبحث عن حلول لها، نعزو الأمر إلى أقرب طريق (هذا نصيبها أو معمول لها عمل أو..) إلى آخر ما يتذرع به الناس من أشياء يسترون بها عجزهم أو يبررون من خلالها أخطاءهم، وللأسف أصبح هذا الفكر الانهزامي من مكوناتنا الثقافية، ولا يسلم منه إلا من رحم ربك.

ونتج عن هذا الفكر العقيم، والثقافة المغلوطة للإرادة الإنسانية، الأمور التالية:

• انتشار الفكر الخرافي، واتساع دائرته في معظم شرائح المجتمع.

• أصبح المجال مرتعاً خصباً للمشعوذين، والدجالين، الذين استغلوا بساطة الناس، وسذاجتهم، نتيجة لانتشار الفكر الخرافي.

• تخلف الأمة وتدهورها سياسياً واجتماعياً وعلمياً، بسبب سيطرة الأفكار التي تدعو إلى إيثار الراحة والدعة بالتواكل، وبالركون إلى القضاء والقدر.

• تعميق الاستبداد، وتمكينه، بتسكين حركة الشعوب، وامتصاص غضبها، بحجة أن هذا قدرها، ولا بد أن ترضى به، فليس في الإمكان أبدع مما كان، حتى قال بعضهم -وكان مسؤولاً كبيراً رحمه الله- في بعض البلاد العربية، عندما سُئل عن انتخاب رئيسه لفترة جديدة -وهو في الحكم منذ ثلاثين سنة- قال: سأنتخبه، قيل له: لماذا تنتخبه؟، قال: (جني نعرفه أفضل من إنسي لا نعرفه)!

المتأمل في القرآن وفي تعاليم الإسلام يجد غير هذا، يجد أن الله -عز وجل- قد شاءت إرادته أن يسير الكون وما عليه وفق سنن لا تتبدل ولا تتحول: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [فاطر: ٤٣].

ووفق هذه السنن تعمل الإرادة الإنسانية، وتتجلى من خلالها أهمية الإنسان، وسمو منزلته عند الله -عز وجل- من جانب، وبيان شرفه وعلو مركزه ومكانته بين العوالم الأخرى من جانب آخر.

فلقد تفرد الإنسان دون سائر المخلوقات بميزات لم تتوافر إلا له، من أهمها:

• أعطاه الله حرية الاختيار في أهم قضية في الوجود، قضية الإيمان بالله، فكيف بغيرها؟! (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29].

• جعل الله مصير الإنسان -بما ركب فيه من استعداد حرية الإرادة- بيده، فالإنسان هو الذي يصنع مستقبله في الدنيا والآخرة، (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام: 104]، (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة: 14]، (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء: 7]، وغير ذلك كثير في كتاب الله، يبلغ المئات من الآيات التي تقرر حرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله.

• حمل الله الإنسان -بحرية الإرادة- مسؤولية التكليف، وأمانة التغيير والإصلاح.. (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب: 72].

وبقوة الإرادة الإنسانية، رأينا شعوباً سادت وقادت وكان لها ما أرادت؛ لأنها آمنت بحرية الإنسان، وبمسؤوليته عما يفعل ويترك، فملكت بذلك أسباب التقدم والازدهار!

ولذا قلت في مقالي السابق (قوة الإرادة): (لا تتفاوت الشعوب في النجاح والتوفيق، وفي العزة والإباء، وفي التقدم والرخاء، إلا بقدر ما يملك أبناؤها من صلابة الإرادة، وقوة العزيمة، فتصبح إرادتها من إرادة الله، وقوتها من قوة الله، وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

وفي ضوء هذه الآية، وما سبق، يُفهم قول (أبو القاسم الشابي):

إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ** ولا بد للقيد أن ينكسر

وبهذا لا يكون البيت مخالفاً للعقيدة، بل يمثل جوهر العقيدة الإسلامية، ويتواكب مع سنن الله في التغيير والإصلاح.

وهذا ما جعلني أقول (بعد أن بلغني أن بعضهم قد هاجم هذا البيت لمخالفته للعقيدة في أوائل اندلاع الثورة المصرية): يؤسفني أن يكون الشاعر أفقه بفقه سنن تغيير النفوس من كثير من بعض حفاظ النصوص!

إذن، ما المشكلة التي نتج عنها هذا الفهم؟
المشكلة تكمن، كما يقول الدكتور محمد السيد الجليند، في الخلط بين نوعين من القضاء الإلهي، وعدم التفريق بينهما:

"الأول: قضاء كوني قدري ضروري، لا يحاسب الإنسان عليه ثواباً أو عقاباً، ولكن يجب عليه في ذلك أحد أمرين: الشكر لله إن تسبب على نفاذ قضائه -سبحانه- نعمة، أو الصبر على قضائه -سبحانه- إن أصاب الإنسان بسوء.. وذلك كالصواعق والأمراض والابتلاءات.

والثاني: قضاء ديني تكليفي شرعي: مبني على الاختيار وإرادة الإنسان.. وهو مناط الثواب والعقاب في الآخرة" (ا.هـ بتصرف يسير).

وفي ضوء النوع الأول (القضاء الكوني القدري)، تفهم أبيات الإمام الشافعي التي مطلعها:
دع الأيام تفعل ما تشاء ** وطب نفساً إذا حكم القضاء

وغيرها من الأبيات التي تدور في نفس الفلك، كقول القائل:

دع الأمور تجري في أعنتها ** ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عين وانتباهتها ** يغير الله من حال إلى حال

بقي شيء: هل الإرادة الإنسانية مطلقة؟

كلا.. فهي محدودة في إطار المشيئة الإلهية المطلقة، فلا يخرج شيء عن مشيئته وحوله وقوته جل وعلا: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ) [الإنسان: 30].

فالإنسان -كما يقول الدكتور القرضاوي- (حر مختار في حدود ما رسم الله للوجود من سنن.. فهو حر لأن الله أراد له الحرية، أو هو يشاء؛ لأن الله هو الذي قدر له أن يشاء).

تلك هي عقيدتنا نحن المسلمين، نتعبد إلى الله بالأخذ بجميع الأسباب، وقلوبنا مع رب الأسباب.

بهذا الفهم ساد الجيل الفريد من الصحابة، وصاروا من رعاة غنم إلى رعاة أمم، وجاء من بعدهم من سار على دربهم، فكانوا أساتذة الدنيا، وسادة العالمين.

صدع المغيرة بن شعبة (بهذا الفهم وبتلك العقيدة) لأحد الفرس حينما سأله: مَن أنتم؟ قال: (نحن قدر الله ابتلاكم الله بنا، كما ابتلانا بكم، فلو كنتم في سحابة لارتفعنا إليكم، أو لهبطتم إلينا لن تنجو منا نحن قدر الله..).

ولله در محمد إقبال حين قال: (المؤمن الضعيف يحتج بالقدر؛ لأنه قدر الله عليه، والمؤمن القوي يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يقهر)!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد