هلوسات عَروس “1” : عن الانتقال و التغيير

فجأةً، تخرّجت ولم أعد طالبة جامعية، وتزوجت، غادرت عائلتي لعائلتي الجديدة، وانتقلت ليس فقط إلى مدينةٍ أخرى، بل إلى دولةٍ جديدة في قارّة جديدة، كل ذلك حدث في أقل من اسبوع.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/21 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/21 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش

ملحوظة:
هذا النص بما فيه ما هو إلا هلوسات تجول في خلدي ولا أنبري أحاول تسجيلها بقدر ما أستطيع، أنشرها لأنني أحب البوح، وكثيراً ما أقابل أناساً يشبهونني إلى حد كبير، هم أيضا يهلوسون بذات الأفكار، إلا أن التعبير يخونهم، وتخونهم الكلمات، وهم في ذات الوقت ينشدون البوح ولا يستطيعون إليه سبيلاً، فأكتب، لعلّ بوحاً ما سجلّته يريح بعض الذين تهوج الكلمات بدواخلهم ولا يستطيعون إليها سبيلاً.

أكتب الآن من قلب الثقب الأسود الذي يبتلعني ويشدني إلى نواته بسرعة.. من بقعة خارج الزمان والمكان، من داخل نفسي الحائرة.
سأحدثكم قليلاً عن نفسي قبل كل شيء.. نفسي أكثر تلوناً من الطيف.. تارةً تكون خفيفةً جداً حتّى أكاد أضيّعها في جوفي وأنساها.. وتارةً أخرى أجدها أثقل عليّ من الجاذبية نفسها، تشدني وترهقني وتجعل خطواتي بطيئةً صعبة.

لسبب ما أجهله، تحب نفسي كل شيءٍ بعيد المنال، إلا أن لديها من الصبر ما يمكنها من الانتظار والإصرار حتّى تصل لكل بعيد، تستهويها فكرة التغيير والانتقال ولا تخيفها، تستمر في البحث هنا وهناك، تتنقل وتتلوّن حتّى تجد لها مرفأً يناسب أكبر قدرٍ ممكن من ألوانها ويجيد إشعال الشغف فيها ويستثير فضولها، فتقعد فيه حتّى ينقضي عن آخره ولا يعود يستطيع أن يتجدد ليماشيها،، أو يفقد القدرة على استثارتها.

نفسي هذه كانت تعيش في وسطٍ رمادي، ظلّت تحاول طيلة الوقت أن تلونه.. حتّى آخر يوم لها لم يتوقف بحثها فيه عن سرٍ يثيرها، أو صبغة شديدة الثبات تمكنها من دهنه بثبات.. ولم تجد.

لا أنكر أنها كانت مرتاحةً جداً هناك، فماذا قد يفضل الإنسان أكثر من عذرٍ أزليٍ لا ينقضي يبرر دوماً كسله وخموله؟
لكنني الآن أدفع ثمناً باهظاً لراحتها تلك، فقد صدمتني نفسي عندما غادرت المدينة الرمادية إلى مدينة شديدة التلوّن، ملوّنةً أكثر حتّى من نفسي.
نفسي الآن تكتشف أنها لا تعرف عن ذاتها الكثير، أبحث عن ذاتي وأفتش في الآخرين الفاعلين من حولي فأجد الناجحين على أحد هذه الأوجه:
وجه منتج، ينفذ؛ فنان متذوق.. ليس بالضرورة كثير العلم ولا غزير المعرفة ولا صاحب ذاكرةٍ ذهبية.. لكنه شديد التنظيم والدقة، مرتب، يجيد المتابعة والالتزام بالقوانين والتنفيذ الدقيق لما يملى عليه.
على الطرف الآخر.. تجد ناجحين منظرين، ذوي ذاكرة خرافية، يحفظون كل شيء، يعبثون مع التواريخ وترتيب الحوادث كأنها لعبتهم… لكنهم فوضويون، يفتقرون للالتزام بشدة، متعِبون في التعامل العملي معهم لقلة التزامهم بالمواعيد وشدة فوضاهم.
أفتش في نفسي فلا أجد نفسي مع هؤلاء ولا هؤلاء!
فذاكرتي شديدة الهزال.. ومهاراتي أخف صلابة من بيت العنكبوت، وأقل تنوعاً مما ينبغي..
أحب الكتابة؛ لكن لغتي هشة..
أحب السياسة لكني لا أعرف عنها سوا مكر فطري مخلوق في صلب المرأة بداخلي..
أحب الفنون.. ولكني حين ولدت لم تولد معي الموهبة الفنية..
أحب نفسي ولا أطيقها..
إلا أن لي نفساً توّاقة! ما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه!
أحب هذا الكون.. ويرعبني تصوفه.. يرعبني تنوعه.. يرعبني هذا الكم الهائل من الثقافة والمعرفة التي لم تمر بي من قبل.. وهي مرادي!
أنا ذلك الإنسان الجائع للمعرفة.. المرهق من شدة ما تستثيره المعلومة، المتعب من فضوله في البحث داخل ذاته ومن حوله وإلى أبعد بعدٍ يعرفه في هذا الكون.

أخبرتكم أنني أهلوس؟ أليس كذلك؟
أنا الآن أتابع هلوستي، أترون.. إنها هلوسة منظمة.. تشبهني: مُنَظّمةُ الفوضوية.
في الآونة الأخيرة مررت بالكثير الكثير من التغيرات، حقيقةً، مررت بتغيرات أكثر مما يستطيع عقلي حملها.
كنت طالبةً جامعيةً، في الحقيقة، كنت طالبةً جامعيةً لوقت طويل، قضيت سنوات عمري السابقة جميعها في منزل واحد لم ننتقل منه قطّ، حتّى إننا لم نغير أثاثه إلّا قريباً جداً، كنت عزباء أعيش مع أسرتي، في مدينةٍ واحدةٍ لم تتغير بدورها أيضاً.
فجأةً، تخرّجت ولم أعد طالبة جامعية، وتزوجت، غادرت عائلتي لعائلتي الجديدة، وانتقلت ليس فقط إلى مدينةٍ أخرى، بل إلى دولةٍ جديدة في قارّة جديدة، كل ذلك حدث في أقل من اسبوع.

أقول لكم الآن: ليست المشكلة في "الانتقال" بقدر ما هي في الـ"نقلة"، الصعب هنا ليس الوصول، وإنما الرحلة. هذا المركب الذي يقلنا من جزيرة الحياة السابقة إلى الحياة الجديدة من خلال بحر مضطرب الأمواج كثير التلاعب بمركبنا وقبطانه، وأنت على متنه تتقاذفك التساؤلات والحيرة تتخبط في داخلك:
كيف هي محطتنا الأخيرة؟

تستقيظ ذاكرتك لتحيي كل صورةٍ للعقل الجمعي تعرفها، تراجع صوراً للجارة وهي تحكي قصصاً مزرية شديدة البؤس عن الزواج والأزواج، تتبسم في آخرها ويطلع لك وجهها وهي تختم حديثها: "إيــه، دنيا فانية".
وماذا عن فنائها؟ أنا أعرف تمام المعرفة أنها فانية، لكنها رحلة! أنا لا أريد أن أقضي رحلتي بالبؤس! أريد صديقاً يشاركني الطريق، نتقاسم آلام الطريق فتصبح أوجاعنا فيه أقل لا أكثر! أريد رحلةً ممتعةً وإن كنت أعلم يقيناً أنها ستنقضي! ثم لماذا يستمتع الآخرون بأن يصيبونا بالاكتئاب؟ لماذا تسعد قلوبهم إن أرعبونا ونغّصوا سعادتنا؟ ألم يجدوا لهم هواية أفضل من العبث بأمل الآخرين؟

أهلوس! تهلوس ذاكرتي، تسترجع قصةً حكتها لنا امرأة طاعنة في السن بروحها لا جسدها، تخوّفني فيها من آمالي وشغفي وتحاول جاهدة إطفاء اللمعة في عيني وسرقة بريقها.. أيستطيع أي أحد أن يخبرني لماذا يكرهون بريق الأعين؟ لماذا يعادونه؟
"ما علينا" – تخبرني عن ابنها الذي لطالما كان يحلم بالسفر، وسافر فندم أشد الندم وعاد مفلساً بائساً كسيراً مقطوع الأمل.
على المركب، خلال الرحلة، ستخاف كثيرا من الندم.. وبالرغم من أن سرديتها لا تقنعك البتّة، فإنك ستخاف.

يصل المركب، أو على الأقل، وصل مركبي لمحطته الأولى، رويداً رويداً زال عن نفسي الخوف الماضي، إلا أنها الآن تتعرف على ذاتها لأول مرّة، تتلمس ملامحها، تحسّها بأطراف أصابعها، تدوّن كل ما تعرفه عنها.. وتكتب هذه التدوينة.

لا تخافوا المركب. متى ما حطّت رحالكم على الشاطئ ستغادركم كل الهلوسات وترحل مع جزر البحر بعيداً عنكم، وسيبتلعها البحر.

في الهلوسة القادمة سأبعثر بعض الكلمات عن شاطئ الزواج ورحلته.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد