اللعنة على مدن العدم و الرياح

فانقسمنا إلى جزأين يفصل بينهم جدار يسيج الوطن المنهك والمنتهك، هنا حياة لا تشبه الحياة، وهناك لجوء لا يشبه اللجوء، المحصلة، انشطار في الهوية والانتماء، بين المغرب والجزائر، حتى صرنا الإخوة الأعداء سراً، والإخوة الأحبة ظاهراً، نحزن لأحزان من هناك، ونفرح لأفراح من هنا، في الآن نفسه

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/21 الساعة 04:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/21 الساعة 04:16 بتوقيت غرينتش

لست أدري حقاً أيها الناس، لست أدري، فالحديث ذو شجون، وكبد الحقيقة مريضة بالالتهاب، وعينها أصابها الرمد.

ربما سيكون أزكى للمواطن في مدن العدم، أن يموت كريماً بين طعن القنى، وخفق البنود، بدل أن يعيش ذليلاً تحت حكم بائس، لا يبين مواقع خطوه في سمادير ليل السياسة، وتسيير شؤون البلاد.

لست أدري.. ربما كان خيراً لنا أن نهاجر في الأرض هياماً على وجوهنا، بدل مداشر فرضت علينا غصباً، ونحن أبناء الغيم والوبر، التيه في تجاويف المنافي خير من التيه في الألواح لمن ألف العري، التشرد في مناكب الأرض خير من السكن في وطن، أجسادنا تعيش مع العالم، في الوقت، وعقولنا جنب إلى جنب مع عبس وذبيان، زمن داحس والغبراء.

ربما كان شراً لنا هذا العيش، في شبه المدينة التي لا تشبه المدينة، التي بدأت حياتها باستعمار، سلمنا لريح صرصر شمالية عاتية، لا تبقي ولا تذر، داستنا أحذية عسكرها الخشنة بلا هوادة، في واضحة النهار، وتحت غرابيب الليل البهيم، رمت من الطائرات وسممت الآبار، رملت وشردت وطمرت، سرقت ونهبت، عذبت وسجنت، والذاكرة الجمعية لم تشفَ جراحها بعد، بل ما زالت تورث الجراح مثخنة بدمائها من جيل لجيل.

اخترنا أن نغازل القمر في ليلة أضحيانه، على أن نلعن سدفة الليل البهيم، وأن نناغي المستقبل الطفل على أن ننعي غوابر الأحلام.

حفرنا أمل الحياة في قلب الصخر الأصم، ونحتنا من صفوائه جسد الوطن اليتيم، جلسنا نلملم جراحنا، فرادى وجماعات، نضمدها ببسلم الحب والتآخي، ونفتش في ثنايا الأيام وغضونها عن عوامل الألفة وأسرارها، ونكتب أسماء من صنعوا يومنا في سجل الخالدين، على أجسام السجناء وأنات المعذبين والضحايا، عبرنا جسر الحرية، إلى أفقها الرحب، نرسم مع أسراب البجع موناليزا الانتصار، كان مخاضاً عسيراً بجنين الشعب نحو التحضر، دفعنا ثمنه أضعافاً، وصدقنا كذبتنا، بعد رحيل العمر.

وبعد أن تثاءبت الأيام أننا أشرفنا على هضبة "أن نكون"، وأن السعادة أسلست قيادها، وألقت نجائبها بجرانها أمام مضارب خيام الوبر الخرساء، ثم استيقظنا على وقع أقدام اللصوص، هنا وهناك، كانوا يبصقون على وجه الشمس، ويكسعون بأيديهم الرطبة والخشنة قفا المستقبل الجبان، سرقوا حلمنا بالنهار، حلمنا بزرقة البحر، وزقزقة العصافير، سرقوا خبزنا وبرنا وبحرنا، كثبان صحرائنا المتموجة، أتقن اللصوص جريمتهم، فذبحوا الحياة من الوريد إلى الوريد، وأراقوا في مجاري قاذرواتهم ماء وجه الحياة بلا ذنب سوى أننا أغبياء وهم حقراء.

فانقسمنا إلى جزأين يفصل بينهم جدار يسيج الوطن المنهك والمنتهك، هنا حياة لا تشبه الحياة، وهناك لجوء لا يشبه اللجوء، المحصلة، انشطار في الهوية والانتماء، بين المغرب والجزائر، حتى صرنا الإخوة الأعداء سراً، والإخوة الأحبة ظاهراً، نحزن لأحزان من هناك، ونفرح لأفراح من هنا، في الآن نفسه، وما موت محمد عبدالعزيز، وقضية الخطاط ينجا، سوى غيض من فيض.

تسلمتنا أيادي "صالح زمراك" في البداية، وما فعل بنا صالح في نظر أسياده، فلسنا سوى أشباه إنسان، أبناء أم غنية، ولا نمثل سوى أصوات نشاز وجب صمتها، وطردها، وما فعل صالح ما زال يروى في كل بيت وكل دار.

سجن الأبرياء، رمل النساء، يتم الأطفال، شغل الحرائر في المزابل عنوة، ولا رشمات شيب الكهول شفعت، ولا أفواه نمور الورق صدحت، ولا أسود عود الثقاب عارضت، بل الكل تآمر بصمته، وشارك في الفيلم السينمائي المثير، والغانية الرعبوب تغتصب، أمام الملأ، والكل يشاهدها، ولا ينبض له قلب، كأنه يرى مشهداً تلفزيونياً لا أقل ولا أكثر.
أتى من بعد خلف، وكان خير خلف لخير سلف، وأحسنهم كان أحقر من آخر سكير يغادر الحانة، من رأس اللائحة إلى ذيلها.
فيهم أبناء البلد، وكان ظلمهم أشد مضاضة على القلب من الحسام المهند، تزوجوا البلاد زواجاً مكرهاً، بلا رضاها ولا رضا أهلها، وعلى سرير السياسة، مارسوا عليها المجون من كل جهة، وتعففوا عن بكرتها خوفاً على شرفها البدوي.
كنا نحدق في الجوزاء لننظم منها قلائد لعذارى المنكب البرزخي، ونحلم بسدرة المنتهى مراداً لجيادنا الصوافن، حلمنا لو قذفنا الشمس كرة، فتتعاورها أقدام أطفالنا التي يعلو سمكها قنن الشواهق، سطرنا الحروف الأولى لإلياذة الخلود،فعشنا الذلقراطية بكل أنواعها، وذقنا الحنظل في كل الكؤوس.
حلمنا أن الكون سبورة، وأن رؤوسنا طبشورة، سنسطر عليها التاريخ، الذي ستحار من روعته الأمم، لكن الحكاية بدأت بخدعة واستمرت بخداعنا، تاريخنا حافل بالدم الذي لم يغسله دم بعد، مسلمون بعقول جاهلية، وقلوب أكفر من أبي جهل.
والكل كان لا يفكر في غير بطنه وفرجه، لا يهمه إلا أن يروي جوعه للثروة والشبق، فنهبنا الأنذال، وكل الوجوه الشائهة تواردت على البئر، التي رمينا فيها كيوسف النبي، ولكن لسنا أنبياء كي نصبح بمعجزة ربانية عزيزاً ذات يوم.
لأن الدنيا لا تنال بالتمني، بل تأخذ من عين المستحيل غلاباً.
اللعنة على مدن العدم، أو الجنة بلغة أورويل الساخرة.
اللعنة على ضرع هذه الناقة الحلوب، الذي كلما جاع بعير جعله نصب عينيه قبلة لمخمصته.
اللعنة على هويتها الدسمة التي علقت بها غبار كل من لا هوية له.
أنا أرض كلما ضاع كلب في الفيافي، انتسب إليها وسم أذان أهلها بنباحه.
اللعنة علي أنا، فمهما كتبت فهذا الحبر لا يشبه سواده صفرة الرمل الذي يضمني بحنو متناهٍ من قبل أن يعرف التاريخ تاريخه، ولا يشبه قيح جراحي الجميلة التي ترمي بشرر من تحت نقاب ضمادها البالية.
اللعنة على القلق المدبب في وجوه ألها، كأنها لوحة إدفار مونش، وصرخة الألم المبحوحة والخوف من أسجاف المجهول.
اللعنة على نزاع جعل منها منشطرة في التيه، وبضاعة بين السماسرة واللصوص والدجالين.
اللعنة على الشعب الذي مثله فيكتور هوغو، بحمار يرتد إلى الخلف، لكن هذا شعب، تدجن إلى أن صار عاجزاً عن الركل.
اللعنة على أنسابنه المختبئة بالقوافي، تحت مور السوافي.
اللعنة على القبيلة، والعشيرة، اللعنة على الإنسان الذي قتل فيه الإنسان.
اللعنة على هذه الأرض الموبوءة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد