مشاهدات في الوطن الفلسطيني

من أجمل المظاهر في الوطن قصص التكافل الاجتماعي.. ومساعدة المقتدر للمحتاج.. في الأزمات كلهم يد واحدة بلا حسد أو تقليد.. أو مباهاة للأغنياء

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/20 الساعة 03:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/20 الساعة 03:44 بتوقيت غرينتش

جدارية التحدي والصمود

كانوا خمسة أشقاء لهم أرض جميلة، مطلة ما بين قرية زعترة وقرية بيتا، الواقعة في الضفة الغربية.. على طريق الأغوار، بنيت لهم هذه البيوت الجميلة من قِبل والدهم الذي كان يملك كراجاً متواضعاً للحدادة والميكانيكا؛ ليشجعهم على التشبث بالأرض ويرسخ فيهم حب البقاء في البلاد وعدم الهجرة.
وللقضاء على البطالة بنى واستثمر بجانب منازلهم متنزهات عامة ترويحية، وألعاباً للطفولة للمساهمة في تشغيل الشباب وتعبئة المكان.

عصابات المستوطنين تهاجم وتستولي على الأرض بسياسة النفس الطويل الهادئ؛ حيث تقضم أرضاً صغيرة، على مرتفع وتغرس بها بيوتاً مستعارة، ومن ثم تنتظر رد الفعل ويحصل الكر والفر.. ومن يذعن لهم يتمادون في الإرهاب والقضم والاستيلاء على بقية القطع والدونمات الخصبة.. وشيئاً فشيئاً تصبح قطعة الأرض قرية والقرية مدينة.. والمدينة مستعمرة..

جاء الاحتلال وأثناء الانتفاضة وضعت نقطة للحاجز البغيض السيئ الذكر حاجز زعترة، الذي قنص فيه ما لا يقل عن أكثر من مائة شاب، واستوقفت فيه مئات السيارات والعائلات للساعات الطوال.. حاول الجهاز العسكري الصهيوني الاستيلاء على تلك البيوت والأراضي؛ لموقعها الاستراتيجي المطل على تلك المنطقة.. وقدموا لهذه العائلة الشهمة شيكاً مفتوحاً لأي مبلغ يطلبونه.. طبعاً رفضوا الطلب وغرسوا أقدامهم في الأرض أكثر؛ ليكون الإصرار والتحدي رغم المضايقات والحرق والتخريب ووحشة المكان وجرف المتنزهات!!
ما أجملهم! وكان الله في عونهم.

***
كانوا ستة أبناء أكبرهم في عمر تسعة وثلاثين وأصغرهم فى عمر ستة وعشرين تخرجوا في الجامعات الفلسطينية بتفوق، أين العمل الذي حلموا به؟
بطالة وإحباط، خبرني العجوز الذي كان يشغل مصنعاً لصنع الأبواب وتشغيل الأخشاب.. اجتمعت العائلة وقررت اختيار العمل الجماعي الخاص، وبدأوا بتأسيس مطعم في رام الله وشارك فيه الأبناء وزوجاتهم وكان هذا قبل خمس سنين، والآن هم يملكون خمسة فروع لمطعمهم في الضفة، واستوعب ثلاثمائة وظيفة، وهو عدد لا يستهان به من الشباب العاطل عن العمل دربوا وأصبحوا من أمهر الطهاة، وحالياً يفكرون في التوسع خارج الوطن.
ما أجملهم! وكان الله في عونهم.

***
من أجمل المظاهر في الوطن قصص التكافل الاجتماعي.. ومساعدة المقتدر للمحتاج.. في الأزمات كلهم يد واحدة بلا حسد أو تقليد.. أو مباهاة للأغنياء.
ما أجمل البساطة والتلقائية التي تتميز بها تلك الشخوص، فمهما تحداهم الزمان والمكان فهم صابرون.. راضون.. قانعون.. حامدون؛ بل وحتى بنكاتهم ودردشاتهم واجتماعاتهم سماتهم خفة الظل وللفكاهة يلوكون.

***
دخلت المكان وقامتها مرفوعة وهامتها عالية، في عينيها الغائرتين رعشة من ضمير حي حاضر، عمرها يناهز السبعين عاماً سألتها عن أرضها وشجرها، وكيف كان قطاف الزيتون فيها تكلمت من بين خطوط عمر السنين بحدة مشوقة، قالت وهي تبتسم: لن نتركها لهم، والفضل لميسي.. لم أفهم ما قالت وكررت السؤال.

قالت: منعنا بالذهاب بالسيارة والوصول للأرض التي ربتنا لنمشي ساعتين على الأقدام بطرق التفافية، ونحن نحمل جبلاً من المخاوف.. رغم أن مدة الوصول للأرض، قبل زرع الجدار العنصري هي نصف ساعة من الزمن؛ لذا ما أن نصل للأرض تتوزع المهام، أنا الحكم والحاج هو ميسي، نشكل الفريق الرياضي!

كرتنا هي حبة الزيتون

نحن اللاعبون، وهم المهاجمون.. نقسم المهام بيننا كفريق كرة القدم.
أنا أكون الحكم وأبنائي اللاعبين، وأحفادي يشكلون فريق الدفاع؛ لرمي الحجارة على المستوطنين المهاجمين، أما زوجات أبنائي فلهن ثلاث مهام:
هن من الاحتياط والمزودين للزاد والماء.. وهن العيون للرصد والترقب؛ لذا من الضروري أن تكون المستوطنة أمام عيونهم وليس خلفهم.. حتى ونحن مغادرون نصفنا يسير باتجاهات معكوسة لمراقبة الطريق، عبر الشريط الاستيطاني.

وكلما ملأ أحد الأكياس بالزيتون خبأ بين المتاع أو في حفرة في الأرض؛ لأنهم يراقبوننا حتى يتم القطاف ويهاجموننا كالكلاب المسعورة ليأخذوا الغلة جاهزة، هي كر وفر في الوادي وخاصرة الطريق، وإصرار وتحدّ في واجهة العقول والنفوس.

إن التحدي الفلسطيني لممارسات الجيش الصهيوني الذي يمنع مالكي الأرض العرب الحقيقيين من الوصول لأرضهم ويسمح للمستوطنين (المتطفلين الذي أصبحوا ينافسونهم في الديموغرافيا والتبذير) بالوصول لها والرقص على ترابها، والتنكيل بأشجار الزيتون التي غرست بعرق وبسواعد العز والفخر الفلسطيني وكبرت وكبروا معها، وهذا ما تجده على كل لسان مزارع وفلاح فلسطيني حر يقول: "لو أعدموا وحرقوا كل هالزيتون، عزيمتنا لا تفتر ولا بتهون.. ولن نركع رغم صنوف التعذيب.. إنه التحدي.
وكان الله في عونهم..

***

ما معني أن تكون فلسطينياً: إما أن تنسى جذورك وتضيع بين الأمم، وإما أن تصمد في الأرض لتكون كالرصاصة.. في بندقية الصد في وجه الاستيطان.
والبقاء على أرض الميعاد..

هناك أمثلة لشخوص وهامات فلسطينية يشار لها بالبنان…

أحد التجار الفلسطينيين ترك دبي التي عمل فيها ثروة ورجع ليبني أكبر مصنع للسوكوريت – أحد أنواع الزجاج – في المنطقة بجهود فردية ما بين قرية أوصرين وعقربة الممتدين على الطريق ما بين نابلس وأريحا والتي استوعب فيه عمالاً بدل خروجهم إلى الداخل وخدمة العدو ورغم الضرائب والمضايقات فإنه استطاع فرض البقاء والصمود.
ما أجملهم! وكان الله في عونهم..

هناك قرية ترمسعيا على الطريق بين نابلس ورام الله، قرية جميلة كأنها إحدى ضواحي لوس أنجلوس فلل وبيوت بحدائق جميلة ملونة بكرميد وسقوف عصرية، أصر أصحابها المقيمون في الولايات المتحدة على بناء بيوتهم فيها وكل صيف ينزلون ويصطافون هناك، وطبعاً يدخلون العملة الصعبة ويساهمون في اقتصادها وتنميتها لتبقى صامدة ومنيعة ضد الاستيطان.. ويتزاوجون من بنات قريتهم، حتى في الولايات المتحدة بالصدفة مررت على ناديهم لأكتشف كأني في القرية بأسمائها العربية واجتماعاتهم التي يحرصون فيها على التواصل ومجتمعهم الفلسطيني.

فيا للعار ونحن نشاهد أكبر المستوطنات وقد تحولت لمدن كبيرة فيها الجامعات ومزارع التمور والزهور والورود التي تصنع وتغلف هناك، ثم تنقل لبلاد أخرى وبأسماء أخرى! أراضٍ في القرى سلبت ومعظم أراضي الغور نهبت، هناك منطقة الفصائل التي هي ملك لعوائل فلسطينية قد قضمت وسحبت آبار من المياه فيها وعرض على أبنائها مئات الدولارات لبيعها لكنهم رفضوا بإصرار، كعائلة النمر وعرفات وغيرها.. وكذلك نهر العوجا سحبت مياهه وحولت للمستوطنات ولمزارع الخلايا السرطانية المستوطنة في أراضينا والناهبة لمياهنا الجوفية والارتوائية.

ناهيك عن صعوبة تنقل المواطن الفلسطيني عبر الحواجز التي قطعت أواصر الضفة الغربية، وفصلت بين أطراف الوطن، ومعاناة المرضى والمسنين والحوامل.. وتنقل الأطفال ما بين بيوتهم ومدارسهم عبر الحواجز العنصرية، فقد تحدثت لأطفال وتلاميذ صغار على معبر قلندية، كل صباح يتنقلون من بيوتهم في ضواحي القدس إلى مدارسهم خارج المعبر والسور وغيرهم..

وهناك أمثلة وأفراد وجماعات استنفر أفرادها لبناء الجوامع وزراعة حقول الزيتون والعنب تحت لهيب نيران المستوطنين الحاقد.

فليس معنى أن تكون فلسطينياً أن تلبس الأسى وتعتمر الحقد وتنكر الحق، فمهما بقيت عقارب الساعة تلف للخلف.. ومهما تزيد مساحات الظلمة والعتمة للغرب.. ومهما تزيد الحشرجة في النفس والحلق.. فنحن الفلسطينيين عنيدو المزاج والخلق، تتشكل الروح فينا بأوتاد صلبة محكمة.. تعانق الأرض تحت الجلد والعظم.. مهما زاد الدمار، ومهما كان الخراب، فما دام في العمر بقية، وما دام في الثنايا رجولة وفتوة، فنحن متشبثون بالحق والأرض، وبالصمود وللصمود.. عنوان وبقاء وتحدٍّ وهوية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد