رافقني طيلة جولتي الصحفية مُصراً على أن أشتري منه ضُمة النعناع الطازجة، وذلك في سوق الزاوية بميدان فلسطين، فقلت له إني مشغولة الآن، وعند انصرافي من المكان سوف أشتريها، ثم باشرت عملي بإجراء مقابلات مع الباعة، ولكنه ظل يختلس النظر إليَّ أينما كنت أتنقل خشية أن أذهب دون أن أشتري منه ضمة النعناع، ذلك هو الطفل عبدالله، صاحب البشرة القمحية والعيون الزرقاء والملامح الطفولية، فهو يذهب في كل عام من شهر رمضان المبارك لهذه السوق؛ لكي يسترزق، محاولاً إقناع المتسوقين هناك، وبأسلوب متمرس لكي يشتروا منه ما يحمل في جعبته.
سوق الزاوية هذه السوق التي تقع بمدينة غزة لا تكل ولا تمل ناسها وروادها وبائعوها، ورغم ضيق الحال وعمق الوجع الغزي فإن هناك معنى للحياة والأمل ولرمضان ولكل شيء، فمع تباشير صباح ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك، حملت أمتعتي وذهبت كي أرسم صورة قلمية عن أجواء رمضان في هذه السوق التي تعتبر من قمة الأسواق التاريخية الموجودة بغزة هاشم، والتي تعج بالناس والحركة منذ الصباح حتى أذان المغرب، وحتى أعين كاميرات المصورين والصحفيين كانت متواجدة هناك بكثرة.
حيث بقيت مشدودة طيلة يومي بعبق ذلك المكان وبأدق التفاصيل التي رأيتها هناك، وتمنيت ألا أغادر هذه السوق الحيوية، فسوق الزاوية يوجد بها كافة مستلزمات الحياة، تكفي رائحة العطور والمسك الطيبة، فكل حانوت من هذه السوق العريقة، يوجد به العديد من الأغراض البيتية، كما يوجد هناك كافة المكسرات الخاصة بالقطايف وكافة أنواع الأجبان من جبنة صفرة وبيضة والكشكوان والحلاوة، إضافة إلى تمر هندي، وقطين، وسوس، وخروب، وقمر الدين، وفريكة، وحمص، وجوز، ولوز، وجوز الهند؛ وكافة أنواع الخضار والفواكه واللحوم، وتكفي رائحة البهارات والتوابل التي شدتني للتمعن بأصنافها العديدة.
وعلى الرغم من أن رمضان هذا العام هو الأسوأ اقتصادياً على الغزيين ورغم الحصار الخانق براً وبحراً وجواً لقطاع غزة، فإن هذا كله لا يمنع المواطنين من الاستمتاع باستقبال شهر رمضان على طريقتهم الخاصة، الذي يطل علينا بلماته العائلية وجلساته وحركة المواطنين فيه حتى منتصف الليل وصلة الرحم والتلاحم المجتمعي؛ حيث إن للشهر الفضيل في غزة فرحته المميزة، فمع ثبوت هلاله تُزين الشوارع والبيوت وأزقة مخيمات اللاجئين بالفوانيس المضيئة، كما أن هناك حارات لونت جدرانها وزينت منازلها بأحبال الزينة البراقة، وكل فرح على طريقته، فإن مقولة (ابتسم أنت في غزة) تنطبق على شعبنا المكلوم فقط.
بعد أن خف زحام المواطنين عن بسطتها الصغيرة توجهت إليها كي أسألها عن حركة البيع والشراء في شهر رمضان كانت متخوفة للحديث معي إلى درجة كبيرة لا أعلم لماذا، فاقتربت منها كي أشاهد ماذا تبيع، فوجدتها تبيع الفقوس والباذنجان والبقدونس، تلك هي العجوز السبعينية أم محمد، ألقيت عليها تحية الصباح، وقلت لها: كل عام وأنت بخير يا حجة، وسألتها بعض الأسئلة، ولكن دون إجابة منها، ربما تخوفاً من الصحفيين، وبعدها تعمدت أن أمثّل عليها بأني سأتذوق من الفقوس الذي تبيعه، فأمسكت حبة بيدي وهممت بالأكل منها بعد أن مسحتها بمنديلي، فصرخت بشدة: (لا لا تأكلي الدنيا رمضان يا بنتي لا تأكلي)، ابتسمتُ، فهنا نجحت في حيلتي، أعلم أني في شهر رمضان، ولكني قصدت ذلك حتى تتحدث معي، وهنا بدأتُ الحديث معها باستدراج الكلمات منها بصعوبة عن حركة البيع لبسطتها، ثم شعرت أم محمد بعدها بالاطمئنان تجاهي وبدأت تتحدث معي قائلة إن الوضع سيئ على الجميع، والحركة على بسطتها كانت نشطة أول يومين فقط من شهر رمضان، مؤكدة أن الكثير يتفرجون على بسطتها ويمشون دون شراء شيء، سُررت يومها عندما تحدثت معي، واشتريت منها في نهاية حواري معها الفقوس الطازج.
وسأشير هنا إلى أنه لفت انتباهي عبر موقع إلكتروني على الإنترنت صورة لمنزل نصف مدمر وجدران حائطه بلا نوافذ، فقد دُمر جزء منه بقذائف الدبابات الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، والتي تمر ذكراها الأليمة الثانية في شهر رمضان، ومع هذا قام ساكنو المنزل بتزيينه بأحبال الزينة المضيئة والفوانيس، فهم يعيشون في نصف المنزل الصالح نوعاً ما للسكن، والنصف الآخر مدمر أجزاء منه وغير صالح للسكن، ورغم شدة الدمار فيه فإن صاحبه أصر على تزيين كامل المنزل بالأضواء والفوانيس كي يُدخل الفرحة والبهجة على قلوب صغاره وعائلته في شهر رمضان، كما وجدت على موقع آخر صورة أخرى تعكس مدى حب شعبنا للحياة، وهي أسرة بأكملها تفطر بعد سماع أذان المغرب فوق ركام منزلها المدمر، افترشوا بساطاً صغيراً ووضعوا فوقه بعضاً من مستلزمات الإفطار، والزينة والأضواء كانت تملأ المكان!
فلا تكاد تخلو حارة في غزة أو شارع في هذه الأيام من زينة شهر رمضان المبارك ومن الفوانيس الضخمة المضيئة والمعلقة على الحبال حتى في حارتي التي أقطن بها؛ حيث زيّن سكان الحي الشارع بفانوس كبير وأحبال الزينة البرّاقة، وعندما خرجت من منزلي أول يوم من شهر رمضان أنا وطفلتي الصغيرة فوجئت بالزينة الجميلة، حينها سألتني صغيرتي من علق هذا الفانوس الكبير وهذه الزينة الجميلة هنا يا أمي؟ ولماذا؟ وماذا تعني؟
سُررت لسؤالها وأجبتها بأن فوانيس رمضان تعتبر من الذكريات الهامة في شهر رمضان الكريم عند الجميع صغاراً وكباراً، وهي من الطقوس المتبعة منذ القدم، ومن أشهر رموز الشهر الكريم، وهو جزء لا يتجزأ من زينة ومظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان في قطاع غزة وبقية الدول الإسلامية، وبعد أن شرحت لها ماذا يعني لنا فانوس رمضان اصطحبتها إلى محل لبيع الفوانيس واشتريت لها فانوساً جميلاً زهري اللون؛ لتحتفظ به وعندما فتحت غلافه ووضعت حجر البطارية نشد الفانوس (حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو).
هذا وقد استخدم الفانوس في صدر الإسلام في الإضاءة ليلاً للذهاب إلى المساجد وزيارة الأصدقاء والأقارب كما صاحب هؤلاء الأطفال بفوانيسهم المسحراتي ليلاً الذي يسحر الناس ويوقظهم للسحور، حتى أصبح الفانوس مرتبطاً بشهر رمضان وألعاب الأطفال.
في النهاية مهما كان عمق الوجع الغزي ورغم تلاطم الآلام سنبقى متمسكين بالفرحة والأمل.. وكل عام وأنتم بألف خير.
غادرت هذه السوق المفعمة بالأمل والحياة والتفت حولي كي أشتري ضمة النعناع، وبحثت عن الطفل الصغير فوجدته ينتظرني، لم ييأس، فاشتريت منه ثلاث ضمم من النعناع ففرح كثيراً وسألني: بكرة بدك تيجي كمان مرة ع السوق!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.