منذ بدء الخليقة وفكرة الأبدية، والخلود والرغبة في البقاء والتطّلع إلى حياة مديدة تؤرّق الإنسان وتقضّ مضجعه. ولا شك، أن هذه هي نقطة الضعف البشري التي استطاع الشيطان من خلالها الوصول إلى أبينا آدم، بل وورّثنا إيّاها نحن أبناءه ممن نعيش على هذا الكوكب.
وقد أتاح التقدم العلمي الهائل، في الطب الوقائي والعلاجي، في القرن الماضي للإنسان، أن يعيش مدة أطول: فقد زاد معدّل عمر الإنسان في الغرب حوالي ثلاثين عاماً خلال القرن الماضي، وهذا الرقم مرشح للارتفاع.
فإذا اتخذنا الولايات المتحدة الأميركية كمثال على الزيادة في معدلات الأعمار: فإن الذين تزيد أعمارهم عن (65) سنة، يشكّلون ما نسبته (12%) من مجموع السّكّان، وهذه النسبة مرشحة للتضاعف خلال العقود الثلاثة القادمة.
أما في الأردن فتشير الإحصائيات إلى أنّ معدّل العمر المتوقع عند الولاده يبلغ حوالي (74) سنة. وهذا الارتفاع في معدل الأعمار، سيصحبه تغيّر في طبيعة التركيبة العمريّة للسكّان حيث ستزيد نسبة المسنين في المجتمع.
وهذا التطور في الطب والرعاية الصحية، أتاح للإنسان العيش لفترات أطول، ولكن لم يضمن له ميزة التمتع بالصحة والعافية، بل على العكس صحبته الأمراض المزمنة. فالمرحلة العمرية التي حدثت فيها الزيادة، هي آخر سنوات العمر، وهي السنوات التي يبدأ فيها الجسم بدفع ضريبة سوء الإدارة لتلك التي سبقتها. مما يجعلها حافلة بأمراض تتزامن والشيخوخة، ومظاهر اعتلال الصحة والتقدم في العمر.
وتشير إحدى الدراسات إلى أن ثلثي الأميركيين فوق سن الـ(65) مصابون بأكثر من مرض مزمن، وهو ما يشكّل عبئاً حقيقياً على النظام الصحي ويرفع من قيمة الفاتورة العلاجية لهذه الشريحة، التي تحولت إلى نمطٍ، سلبيٍ ضاغطٍ على الاقتصاد والميزانية. حيث يُصرف حوالي ثلثي ميزانية الصّحّة على هذه الشريحة.
فلو أخذنا مرضاً واحداً على سبيل المثال، وهو مرض السرطان، فسنرى أن شخصاً من بين ثلاثة أشخاص سيصاب بالسرطان بعد عمر السبعين. وهي نسبة أكبر بكثير من مثيلاتها في الفئات العمرية الأخرى.
مما سبق نستنتج أن تغيراً جذرياً في بنية الرعاية الصحية يجب أن يحدث ليلبي حاجات هذا التغيّر الديموغرافي: بحيث نخرج مما يسمى بالرعاية العرضية
(episodic care) والتي تعنى بمشكلة أو مرض ما، إلى ما يسمّى بالرعاية المتكاملة والمتواصلة (continuum care)، والتحوّل من التركز على الاستثمار في بناء المزيد من المستشفيات، وزيادة عدد الأسرة الى التركيز على الرعاية الأولية والطب الوقائي.
كما يجب التوسع في بعض التخصصات مثل طب الشيخوخة وعلاج الألم والرعاية التلطيفية، وهي تخصصات تفتقر إليها معظم دول العالم وخاصة النامية منها، والتي تشكو من نقص حاد من حيث توفرها. كما يجب إعادة النظر في الطريقة التي ننظر فيها إلى إطالة عمر الإنسان بحيث تكون هذه الإطالة في منتصف العمر، وليس في نهايته: وذلك بإبقاء الناس صحيحي الجسم والعقل أطول فترة ممكنة، وذلك بالتحول إلى أسلوب الحياة الصحي والسيطرة على الأمراض المزمنة.
كما يقتضي التنويه هنا أن الآثار الناجمة عن هذا التغير في التركيبة السكانية لن يقف عند الرعاية الصحية المباشرة، بل سيطال العديد من الجهات المنخرطة في هذا القطاع مثل: الصناعات الدوائية والشركات التقنية الطبية وشركات التأمين. ولذلك سيتوجب على المعنيين وضع خطط إستراتيجية تنبثق من فهم عميق ودقيق للموارد المتاحة، وللتغير المتوقع في التركيبة السكانية، ووضع رؤى واضحة لمستقبل القطاع الصحي لمواجهة هذه المتغيرات. وبدون ذلك فإن هذا القطاع سيواجه خطر الانهيار والإفلاس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.