عندما انتهيت من كتابة مقالي السابق الذي تحدثت فيه عن "آبي" جميلة الفلبين، وبعد أن أرسلته مباشرة تفحصت صفحتي على الفيسبوك، وإذا بي أجدُ طلب صداقة، صورة لفتاة تبدو آسيوية، ضغطت على الصورة وتوالت الذكريات تمر أمام عيني، إنها آبي، يا إلهى ما هذا الهاتف الروحي الذي كان يتراقص فوق كلماتي، وحمل لها محبتي؛ مما جعلها تبحث عني وتجدني وتطلب الوصال، أو لعلها بادرت في البحث عني، وشعرت روحي بذلك فحثتني بالكتابة عنها…. إنه هاتف الروح قد هاتفني فأجبت.
كم من مرة نختلي بأنفسنا لنعيش لحظات ماتت مع مَن كُنا نُحب، وإذ فجأة نجد من هذا الشخص رسالة، هي رسالة من الله أيضاً؛ كي نتيقن أننا لم ولن نعرف خبايا الروح وقدرتها على التواصل، لن ندرك السر الخفي الذي يتحكم في مشاعرنا وذكرياتنا وأرواحنا، اليقين الوحيد هو أن للأرواح أسراراً تخترق البحار وتعبر القارات وتسري في أعماق قلوبنا؛ لتجعلها تنبض بحنين لذكريات من عمر فات.
بعد انتهائنا من الرحلات التدريبية، احتفلت الشركة بتخرجنا وتم تسليمنا رخص الطيران، التي من دونها لا يسمح لنا بالصعود للطائرة، الرخصة تحتوي على معلومات عن الطائرات المسموح لنا العمل بها؛ نظراً لاختلاف أنواعها، وتسلمت كل منا جدول الرحلات الشهري؛ كي ننطلق بين السحب عابرين للمحيطات، زائرين لمختلف القارات.
قررنا أن نحتفل، وكان لحسن الحظ "عيد الحب" أيضاً، حيث دعتنا ياسمين، إحدى الفتيات الهنديات، إلى حفلة في منزل أحد أقاربها الذي يعمل في الدوحة منذ سنين، وبالفعل انتهزنا الفرصة واحتفلنا بكل ما أوتينا من طاقة، كما لو كانت أرواحنا تبحث عن فرحة، ولو مصطنعة في أيام الغربة المملة، رقصنا ورقصنا حتى تعب الرقص منا.
اكتشفت أننا لا نختلف عن الأجناس الأخرى سوى في اللغة، حتى العادات والتقاليد تكاد تكون متطابقة، أيقنت أن الروح هي اللغة، هي التي تتواصل مع الغير؛ فتخلق لنا درباً نسير فيه، وننشئ من خلاله علاقات قوية مع مَن نتآلف معهم.
عند عودتنا من الحفلة، بادرت" سونو" بدعوتي لتناول الغداء معها في اليوم التالي، وافقت طبعاً، كنت أعتز بصداقتي مع "سونو"، تلك الفتاة الهندية الجميلة قلباً وقالباً، كم كانت متواضعة وبسيطة وخفيفة الدم، تسكن في الشقة الأسفل مني مع "هيما وتينا"، وبالفعل اجتمعنا نحن الأربع على مائدة مرصوص عليها أنواع مختلفة من الأطباق الهندية التي تفوح منها رائحة الكاري والشطة القوية، لدرجة جعلتني أشعر أنني أتنفس "كاري" وليس "أكسجين"، بدأن بالأكل ووجدتهن يفضلن تناول الطعام بأيديهن، يغمسن الخبز بالدجاج ثم يغمسنه في طبق به "مانجو مخلل"، نعم إنهم يخللون المانجو ويا له من مذاق لذيذ! أعترف أنني أحببت بعض الأكلات الهندية وسعيت لمعرفة كيفية إعدادها، الشعور بالألفة والانسجام الروحاني شعور جميل يهون علينا أزمات الحياة المتوالية .
بعد أن أجهزنا على الأطباق ونسفناها، أعدت لنا هيما كاسات الشاي السليماني المعروف، جلسنا نتذكر ليلة أمس ونتبادل النكات والأحاديث المسلية، إلى أن شاهدت تمثالاً لسيدة لها أيدٍ كثيرة، سألتهن عنها، أجابتني هيما بأنها "شاكتي" إلهة هندوسية تعني القوة والطاقة، وهي تجسد الجانب الأنثوي للآلهة، وقتها مع قلة تجاربي وعنصريتي التي نمّتها بداخلي خُطب وكتب كثُر لمشايخنا الكرام، لم أتحمل الحوار عن تعدد الآلهة، بدأت أحدثها عن الإسلام، وأنه هو الدين، وبدأ الجو يختنق من تعصبي لفكري وعدم قبولي لفكر الآخر، شعرت بضيق في نفسي وآثرت أن أخلد للنوم بدلاً من أن تزداد حدة النقاش، وقتها بدأت أرواحنا في التباعد قليلاً.
تيقنت أني مخطئة، فالعنصرية والتعصب تؤدي لقتل الروح وقتل كل ما هو جميل، كم كبدتنا تلك العنصرية والتعصب! ألم نفهم بعد أن الدين هو للتعايش، هو للتقارب ولخلق روح من المودة والمحبة؟ أليس الدين هو ما يحثنا على تقبل الآخر وعلى إحياء الجمال فينا؟!! وكيف لنا أن نرى الجمال طالما وضعنا أفكارنا نصب أعيننا ونصبنا أنفسنا للحكم على الآخر؟!
آثرت أن أبقي على صداقتي لـ"سونو" التي تقبلتني حتى وأنا متعصبة لفكري، روحها الجميلة وانسجامي معها هي التي جعلتني أتأكد أن الحياة ليست بفرض رأي أو فكر أو توجه، ولكنها قبول وتقبل ومحاباة في الله، الروح تدخل في حالة من الخشوع كلما أيقنت أن الله موجود في قلوبنا جميعاً مهما اختلفت أسماؤه.
كما قال جلال الدين الرومي: "لا تحكم على الطريقة التى يتواصل بها الناس مع الله، فلكل امرئ طريقته وصلاته الخاصة. إن الله لا يأخذنا بكلمتنا، بل ينظر فى أعماق قلوبنا، وليست المناسك أو الطقوس هى التى تجعلنا مؤمنين، بل إن كانت قلوبنا صافية أم لا".
عند عودتي لغرفتى استعددت لرحلتي الأولى في الصياح الباكر، آملة أن يكون معي طاقم لطيف من الزملاء أستمتع معهم بالرحلة، وأنسجم مع أرواحهم؛ فتظل ذكرى تلك الرحلة في قلبي معطرة بالمحبة، أليست تلك الأرواح الجميلة التي تتآلف مع شبيهاتها هي نعمة من نعم الله علينا!
(يتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.