أخبار سارة للاقتصاديين المغاربة

أشهد أن "الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية" تتفرد بميزات كثيرة لا توجد في غيرها من جمعيات الباحثين؛ لعل أبرزها فتح المجال أمام الشباب الذي يحاول تلمس بدايات مساره الأكاديمي

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/18 الساعة 05:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/18 الساعة 05:03 بتوقيت غرينتش

حدثان مهمان عرفهما المغرب خلال شهري مايو ويونيو 2016، يخصان الاقتصاديين المغاربة؛ أما الأول فهو تنظيم مؤتمر دولي حول "ريادة الأعمال في خدمة السلم" من طرف "المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية" بمدينة مراكش، والحدث الثاني يتعلق بالمؤتمر السنوي العاشر لـ"الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية" المنظم بالرباط، والذي شكل مناسبة احتفلت خلالها هذه المؤسسة العلمية بالذكرى العاشرة لتأسيسها.

خلال أشغال مؤتمر "ريادة الأعمال في خدمة السلم" تم تكريم المفكر الأميركي اللاسلطوي المعاصر ديفيد فريدمان، وهو ابن الاقتصاديين الشهيرين ميلتون فريدمان (نوبل 1976) وروز فريدمان. يشكل ديفيد فريدمان عنصراً رئيسياً من سلسة من المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين، الذين أسسوا تيار الليبرالية الكلاسيكية. ينتمي ديفيد فريدمان إلى العائلة الفكرية الممتدة من جون لوك مروراً بديفيد هيوم وآدم سميث وفون ميزس وفريدريك هايك وميلتون فريدمان وموراي روثبارد.. وغيرهم ممن جمعوا بين الدفاع عن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية (اقتصاد السوق غير المقيد) والنزعة الفردانية.

خلال أشغال هذا المؤتمر رجعت بي ذاكرتي إلى عام 2006 لما توفي ميلتون فريدمان. ما زلت أتذكر أني كنت حينذاك طالباً بكلية الاقتصاد، وخلال كل تلك الأسابيع لم يذكر أي من أساتذتي أي شيء عن اقتصادي ذي اسم كبير رحل. لا يتعلق الأمر بأي اقتصادي آخر، بل بمن أثار كثيراً من النقاشات وصنع كثيراً من الأصدقاء وربما أكثر منهم من الأعداء. أسس ميلتون فريدمان التيار النقدي ومدرسة شيكاغو، ولقي كتاباه "الرأسمالية والحرية" (1962) و"حرية الاختيار" (1980) نجاحاً كبيراً في زمن توقف فيه علماء الاقتصاد عن تأليف كتب للجمهور الواسع.

في الجامعات الحية، يعتبر أي إنجاز علمي مناسبة لعقد مؤتمرات والاحتفاء بإضافات المعرفة والعلم. ويعتبر رحيل كل اسم كبير مناسبة لاستذكار إرثه الفكري وحبذا لو كان ذلك ممن يشاطرونه الرأي ومن يخالفونه أيضاً كي تكون فرصة أمام الطلبة الباحثين لمواكبة تطور المعارف والعلوم في عصرهم، الذي يجب أن يعيشوه بكل تفاصيله الدقيقة. لكن متى غايات العلم والمعرفة أولى أولويات جامعاتنا؟

لم يكن عام 2006 عاماً سيئاً بمجمله بالنسبة للاقتصاديين المغاربة، فخلال ذلك العام أُسِّسَت "الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية"، وهي المؤسسة العلمية الوحيدة التي تحمل عبء لم شمل الباحثين المغاربة في علم الاقتصاد. تعقد الجمعية مؤتمراتها العلمية بشكل دوري، وتَوَسَّع نشاطها خلال العقد الأول من عمرها ليشمل مجموعة من الإصدارات والأنشطة العلمية الأكاديمية.

حضرت أشغال المؤتمر العاشر، وأستطيع أن أشهد أن "الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية" تتفرد بميزات كثيرة لا توجد في غيرها من جمعيات الباحثين؛ لعل أبرزها فتح المجال أمام الشباب الذي يحاول تلمس بدايات مساره الأكاديمي، ليس لحضور المؤتمر فقط، أو لإلقاء مداخلات خلال أشغال هذه الدورة، ولكن أيضاً ممثلاً في مكتب الجمعية لتحمل مسؤوليات تدبير هذه المؤسسة. وقد اختار الجيل المخضرم دعم الجيل الجديد ليترك خلفاً له. وتجسد هذا الدعم في التعليق على الأوراق المقدمة وفي إبداء الملاحظات المنهجية والعلمية عليها، وفي تقديم اقتراحات منهجية جديدة لتجويد الأبحاث. إن هذا العمل التوجيهي يشكل بالنسبة للباحثين الشباب المغاربة فرصة كبيرة للتعلم وصقل الموهبة الفكرية والبحثية.

ومن الميزات الأساسية الأخرى، كما لا يمكن للعين أن تخطئ ذلك، الانسجام الذي استطاعت كل الأطياف الفكرية، وما أكثرها في صفوف الاقتصاديين في عالمنا المعاصر، أن تنسجه داخل فضاء الجمعية، سواء في مكتبها المسير أو خلال مؤتمرها العام. ورغم اختلاف التوجهات وتمايزها، إلا أن احترام الآراء هو السائد. وهذه من الميزات الكبرى التي يفتقدها محيطنا الفكري العربي في أغلب الأحيان.

لما أوشكت أشغال المؤتمر على الانتهاء، تناولت الكلمة أستاذة مغربية مخضرمة، وركزت على مسألة أساسية؛ إن الاقتصاد ليس من العلوم الحقة، بل يجب أن نصنفه دائماً ضمن فرع العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهي محقة تماماً في ذلك. إذ لا يجدر بالاقتصاديين أن يبالغوا في الثقة بأفكارهم ونتائج أبحاثهم. فتاريخ الأفكار الاقتصادية بيّن إلى أي حد يشتد التناقض بين الاقتصاديين، وهم ليسوا كلهم على حق على كل حال. كما بينت السياسات التنموية المتبعة في بعض البلدان الأخطاء الفظيعة التي سقطت فيها بعض نظريات التنمية. لكن هذا الفشل نفسه، وهذا الاختلاف الشديد في الأفكار هو ما يجعل دراسة الاقتصاد أمراً رائعاً ومسألة جديرة بالتقدير والتشجيع.

وإذا شئت أن أتوقع أي شيء يخص مستقبل الدراسات الاقتصادية في المغرب، فإني أستطيع أن أقول بكل ثقة، إن جيلاً جديداً سيتولى طرح الأسئلة وإنجاز الأبحاث ومواكبة الإضافات المعرفية في هذا الفرع الأساسي من فروع المعرفة. إني متفائل ولدي ما يؤكد ذلك من خلال ما شهدته خلال حضوري مؤتمرين مهمين خلال شهري مايو ويونيو 2016. وهذا خبر سار لكل الاقتصاديين المغاربة في نظري.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد