طبق من الكبة، وآخر من التبولة، يتوسطهما طبق رئيسي من اللحم الأحمر، بخلاف أنواع الشوربات والمقبلات الأخرى، مائدة الطعام تلك كانت مبهجة للطفلة نغم الصوير – 10 سنوات – التي راحت تأكل برفقة أفراد أسرتها بعدما تحقق حلمها أخيراً في دخول المطعم.
رغم بساطة حلمها، إلا أن والدها لم يكن قادراً على تلبية رغبتها على الإطلاق، فهو ليس من ميسوري الحال بل يعد من الفقراء الذين يتقاضون الإغاثات المالية والغذائية من وزارة الشئون الاجتماعية والمؤسسات الخيرية أيضاً.
إلحاح الطفلة "نغم" وأخوتها الصغار لتناول وجبة طعام في أي مطعم يتردد عليه أقرانهم في المدرسة، كان يحرج والدهم محمد كثيراً، حتى أنقذته دعوة مقدمة من "المشروع الخيري الأول" لتناول الإفطار في مطعم "مستر بيكر" مع أفراد عائلته، حينها لم تسعه الفرحه فطار إلى ابنته وهو يتكئ على عصاه كونه يعاني المرض يبلغها بالدعوة.
يقول والد نغم "حينما ذهبت برفقة عائلتي للمطعم لم يصدق صغاري الأمر ،ولاسيما حينما طلبنا أصنافاً جديدة لم نعتدها بدلاً من وجبات الأرز التي تقدمها إلينا الجمعيات الخيرية من حين لآخر".
وأوضح في تصريحاته لـ"عربي بوست" أنه بعد انتهاء تناول الإفطار والعودة لبيته اكتشف أنه لم يكن "الفقير" الوحيد الذي وصلته الدعوة، فقد كان جميع الحضور مدعوين مثله لكن لم يشعر أحداً بأنه "محتاج".
أصحاب المطاعم
ورغم كثرة المطاعم الموجودة في قطاع غزة التي يصل عددها أكثر من 150 مطعماً، إلا أنه لا يستطع جميع الغزيين الذهاب إليها حتى لو كانت شعبية، فأقل وجبة هناك يصل سعرها 20 شيكلاً (حوال 5 دولارت)، يوفرها ربُّ الأسرة لجلب مكونات وجبة كاملة لأسرته طيلة اليوم.
التقت "عربي بوست" الناشط الشبابي حسن مدوخ أحد القائمين على حملة "المشروع الخيري الأول"، الذي ذكر أن هدفهم كان أخذ التبرعات من أصحاب المطاعم من مال أو وجبات طعام وتوزيعها على المحتاجين.
وأوضح مدوخ، أنه وفريق الحملة تفاجؤوا من صاحب مطعم "مستر بيكر" حينما طلب منهم أسماء المحتاجين كونهم يمتلكون قاعدة بيانات بأسمائهم وعناوينهم فمنحوه، حتى سارع وقدم لهم دعوات لتناول الإفطار في مطعمه.
وتشجع فريق الحملة لاقتراح تلك الفكرة على بقية المطاعم، كونهم لامسوا الفرحة بعيون "المحتاجين" بعدما تحقق جزءٌ من أحلامهم البسيطة.
ومن بين الأشخاص الذين حضروا برفقة عائلاتهم إلى تناول الإفطار في المطعم كان الخمسيني أبو أحمد نصار، الذي وصف الدعوة بـ "الرائعة" كونها أسعدت عائلته التي لا يستطع توفير أدنى وسائل الترفيه لها.
يقول "إحدى المرات كنت أسير برفقة صغيري حتى وقف على باب أحد المطاعم يريد الدخول، حاولت إقناعه أنني لا أملك المال الكافي لكنه عاندني وأراد إحراجي فما كان مني إلا أن ضربته وسحبته إلى البيت"، مشيراً إلى أن تلك الحادثة توجعه كثيراً حينما يتذكرها فدوماً يتجنب السير من أمام أي مطعم.
ولفت إلى أن الدعوة التي تلقاها وعائلته حفظت ماء وجههم كونها جعلتهم يشعرون وكأنهم مثل أي عائلة تذهب لمطعم تتناول الإفطار، بدلاً من الطوابير التي يضطر الوقوف فيها لجلب صنية رز ونصف دجاجة لعائلته حينما تدعوه أي مؤسسة خيرية، واصفاً الموقف بالمهين.
الاعتقال والأطفال سبب الفكرة
وفي زيارة إلى مطعم "مستر بيكر" ذكر صاحبه "إياد رجب"، أن تجربته كانت تلح عليه قبل بداية شهر رمضان، خاصة وأن كثيراً من الأفراد يطرقون باب مطعمه للسؤال عن ثمن وجبه الطعام ثم يخرجون لعدم تمكنهم من الدفع، عدا عن الأطفال الذين يسحبون ذويهم للدخول لكن العوز وقلة المال تدفعهم لغض البصر عن تلك المطاعم.
ويوضح رجب، أنه حينما جاءه فريق الحملة لأخذ وجبات وتوزيعها على الفقراء، رفض لأنه فضل دعوة العائلات المستورة إلى مطعمه كنوع من التغيير ورسم البسمة على وجوههم ، مشيراً إلى أنه اشترط في دعوة الفقراء أن يكونوا عائلات متعففة لا تطرق أبواب الجمعيات.
ويؤكد أنه لا يتحدث عن مبادرته في فتح أبواب مطعمه أمام الفقراء من أجل الدعاية، بل لتشجيع بقية المطاعم لاستقبال هذه الطبقة التي من حقها العيش ولو مرة واحدة برفاهية وتقديم أشهى المأكولات لهم.
وعن عدم إعلام جميع المدعوين بأنهم من ذات الطبقة، بين رجب، أنه فعل ذلك لعدم إحراج العائلات حيث عمل وفريقه بالمطعم على التعامل معهم كما لو كانوا زبائن عاديين ومن حقهم أن يطلبوا ما يشاؤون من أصناف الطعام حتى لو كانت غالية الثمن.
ويروي ومن المواقف التي حدثت معه في اليوم الأول حينما استقبل 100 أسرة من العائلات المتعففة أن رجلاً جاء يسأل عنه فبمجرد أن قابله احتضنه وبكى قائلاً "لقد حققت حلماً كنت عاجزاً عن تحقيقه لعائلتي".
وعن السبب الآخر الذي جعل رجب يستقبل الفقراء أيضاً، تجربته في الأسر فقد كانت معتقلاً لدى الاحتلال الإسرائيلي، وعاش شهر رمضان هناك كان يشتهي فيه مأكولات وأصنافاً مختلفة لكنها لم تتوفر له ولبقية الأسرى، مما يجبرهم على تناول أي شيء تقدمه لهم إدارة السجون.
وخلال حديثه، دعا أصحاب المطاعم لاستقبال هذه الطبقة فالوضع الاقتصادي الذي فرضه الحصار على غزة سبّب في ارتفاع نسبة الفقر إلى 80 %، مطالباً في الوقت ذاته المؤسسات الخيرية التي يأتيها الدعم من الخارج بتغيير أنواع الطعام التي تقدمها لطبقة الفقراء والتنويع بأطباق يشتهونها.
ويبدو أن دخول المطاعم بالنسبة للأسر الغزية الفقيرة حلمٌ كبير، فرغم بساطته إلا أنهم لا يستطيعون المغامرة والدخول خشية أن تأتيهم فاتورة لا يقوون على سدادها.