رمضان.. حبيبٌ على فاقة قد جاء!

فقط تخيّله حبيباً على فاقة قد جاء، تصلح به ما قد ساء، تحسس روحانية الأجواء، ألا تشعر بأن رحمات تتنزل من السماء، وأرواحاً قد تسامت عن سابق عهدها من الكبرياء، قرآنٌ يتلى، وصلوات ترفع، وأذكار تزيّن الأنحاء، هكذا هو رمضان الذي قد أتانا، بكل خير اصطفانا

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/15 الساعة 06:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/15 الساعة 06:02 بتوقيت غرينتش

كنت جالسة أتحدث مع أخي الذي سبقني في خبرته الدنيويّة بأعوام، وتطرقنا إلى موعد رمضان، علّق أخي برد قد يصعقكم، ولكنّه لم يدهشني للأسف؛ لسابق عهدي به "ليته لن يجيء"!

تبادرت إليّ الكثير من الأفكار، أولاها ما سبب هذا التعليق؟ سببه باختصار أنّ عقولنا باتت قاصرة، تعتقد أنّ الله فرض رمضان لنظمأ ولنعطش ولنشقى فوق شقائنا الدنيويّ. تناسينا أنّ الله أرحم بنا من أمهاتنا اللاتي ولدننا، بالنسبة لهم أن أجد الطعام وأن أمتنع عن أكله إلى أن ينادي منادي المغرب، ثم أنكب عليه كبّاً هو جهاد، إن أمسكت نفسي عن رشفات ماء فأنا من الزهّاد، هذا هو رمضان باختصار، يأتي كضيف ثقيل على أرواحٍ لصلاتها سرّاقة، ولشهواتها مشتاقة، ووراء أهوائها منساقة، أرواح قد أتعبها الركض خلف الدنيا، ركضت وركضت، ولكن كلما حصلت على شيء ضاع منها كما تنساب حبات الرمل بين أصابع المشلول وهو لا يقوى على الاغتنام منها على شيء؛ لأنّهم ربطوا العمل بقدراتهم وأسبابهم ونسوا مسبّب الأسباب.

الحمد لله، قد أعلن المُفتون، وحزن المَفتون، كيف له أن يفارق شيطانه، وعقد من الدهشة لسانه، ولكن أين ذهبت تلك الأمّارة بالسوء والله إن استسلمنا لها ستردنا إلى أرذل الأرذلين. نوينا الصيام، وتعاهدنا القيام، فما كان قيامنا إلا سهراً فيما لا يرضي رباً، ولا يسعد قلباً، مسلسلات تعقبها الأخرى، جلسات لا صلة رحم فيها، سوى غيبة تعقبها نميمة ومتبلة بنشر الفتن، تهافتٌ على أنواع الحلويات كأنّنا ما أدخلنا شيئاً لجوفنا في سابق أيّامنا، أتخمّنا بطوننا بالسحور وتسابقنا من يقف على براد الماء ليشرب أكثر ولو فهموا فسيولوجية الجسم لأدركوا أن ملء البطن كقنينة ماء لن ينفع؛ لأنّ بها ثقباً سيفرغ هذه البطن أسرع ممّا يعتقدون، هنا يظهر كم أنّ رمضان لم يعلمنا القناعة بعد، نمنا، مَن عنده عمل قد أفاق متثاقلاً، متجهماً، مغتمّاً لديه استعداد ليقتل شخصاً إن ألقى عليه سلاماً، فكيف بمن ألقى ما يغضبه كلاماً!! مرّ اليوم وقد شتم سائقاً، أو خاصم أخاً أو تجاهل طاعة أو أقبل على معصية، هكذا نحن، لا نجيد إتقان العمل، ومن منّا قد رُحم من الاختلاط بالناس فإنّه ينام وقبل الأذان بدقائق يصحو، معتبراً نفسه من الصوّام وكأنّه كان يجاهد في نومه، وقبل الإفطار يبدأ المهرجان الأكليّ، أطعمة يسيل لها اللعاب تساق إلى المائدة، يترجى المدفع لكي يطلق ثمّ ينكب انكباباً ما بعده انكباب، شعور من كان في صحراء شديدة الحرارة فوجد بحيرة متجمدة فألقى بها نفسه خشية الهلاك، ولكنّه تناسى أنّه ألقى نفسه بالهلاك ذاته، وبعد الفطور إن أراد الصلاة فإما أنّه لا يصليها أو أنّه يصليها وكأنه يشد على بطنه حجراً ثقيلاً، ولكن شتّان بين حجره والحجر الذي شده النبيّ صلى الله عليه وسلم ليسدّ به جوعاً، السؤال الذي يطرح نفسه: أنويت حقاً أن تجعل رمضان هذا ككل عام، يدخل ويخرج كما أنت إن لم تزدد سوءاً؟

فقط تخيّله حبيباً على فاقة قد جاء، تصلح به ما قد ساء، تحسس روحانية الأجواء، ألا تشعر بأن رحمات تتنزل من السماء، وأرواحاً قد تسامت عن سابق عهدها من الكبرياء، قرآنٌ يتلى، وصلوات ترفع، وأذكار تزيّن الأنحاء، هكذا هو رمضان الذي قد أتانا، بكل خير اصطفانا، انوِ الصيام عن كل منكر بكل طاقاتك، اسأل الله الإعانة، قُم ما استطعت أن تقوم، لا تقف، وإن تأثرت فازحف زحف المقبل ولا تركض ركض المدبر، لا تخف من التغيير واسعَ له فلا تدري إن كان هذا آخر رمضان لك، افرح به كطفل صغير، أُعطي ما كان يطلبه منذ زمن كثير، أحسن استغلال أوقاته كشخص مودّع كبير، سارع إلى الخيرات، ولا تغرنّك كثرة العقبات، لا تلتفت إلى الوراء إلاً لأمرين: إمّا أن تأخذ بيد أخ لك، أو أن ترى كم اجتهدت لتكون ما أنت عليه فتقوى همّتك أو تحزن لقلة إنجازك فتقوى همّتك بهذه الأخرى، لا تتكاسل فكل كسل يعقبه ندم، ولا تؤجل، فكل تأجيل مآله الندم، فقط اصحَ صباحاً، تفاءل بأنّك ستجيد أداء عبادتك، تحلّ بالصبر، اجعل رفيقك مصحفك وكلما اشتقت له افتحه، انظر إليه وعندما تشعر به يخاطبك فاحتضنه وعلى الخد دمعة؛ تخبره كم كنت مقصراً معه، صلّ فرضك وزد عليه نافلة تجبر بها نقص طاعتك، حافظ على أذكارك ولا تصدنك كثرتها فهي كليمات ستحسن ضبط سلوكك، تدارس ما استطعت من دينك وقبل الإفطار أعن أهلك إمّا براً بأمّك أو رحمة بأختك، قف وادعُ دعاء المنكسر الحيران، ربّ قد ضللت كثيراً وقلبي للقرب منك عطشان، ربّ خشوعاً في صلاتي، وتدبراً عندما أرتّل آياتي، خص من أحببت بالدعاء، وتذكّر أولئك الذي عجزوا عنه، ادعُ لغيرك بالهداية، بالمغفرة، بالرزق، بتفريج الهمّ وتذكر أن لك بالمثل من ملك السماء. افطر وأنت مستشعر نعمة الله عليك في هذه اللقيمات، إيمان، إسلام، أهل، أمن وطعام تسند به بدنك، فالنفوس المحرومة من هذه النعم كثيرات، تجهّز للتراويح، تلك الركعات المريحات، تأتي بلطف تمسح دواخلي مسحاً، تأخذني إلى عالم أجمل بكثير، نعم قد أسهو ولكنّي كلما أدركت سهوي، سارعت إلى الرجوع؛ محاولةً تقوية علاقتي بالرحمن الرحيم الذي دعاني كلما أدبرت واستقبلني بشوق إن أنعم عليّ بالإقبال. احرص على أن يكون ليلك قياماً، املأه بالعبادات، ولا تشغله بالتفاهات، وتحرّ كل سبل الرحمات، صلة رحم، علم، طاعة، والإبداع في هذا المجال كثير.

باختصار لا تدخل رمضان ولكن اجعله يدخل فيك، يغيّرك للأفضل ثم يخرج مودعاً إيّاك على أمل العودة العام المقبل.

ختاماً لا بد أن أعبّر عن مقدار سروري كلما تذكرت "إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به"، تشدني هذه البشرى، فمن له ملك الأرض والسماوات، عندما يعطي عطاء يفوق التخيّلات، ربّ فاجعلني في شهرك هذا من العتقاء، واكتب لي فيه مرافقة الأنبياء، وبلغني الليلة التي أنزل فيها الكتاب، ولا تضلني بعد أن طلبت الباب. ربّ إعانة على الطاعات، وشوقاً إلى الجنّات، وإجابة للدعوات، وسعياً إلى عالي المرتبات، ربّ ارزقني الخير كله وادفع عنّي الشر كله فقد توجهت لمن لا يخيب من رجاه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد