"مواسم وأعياد" مثال يقال لأعمال لا تنجز إلا بمناسبات معيّنة، تجد فيها الكلّ يتسابق لإنجاز الواجب فيها، إن كان عيداً فتهنئة وإن موسم عبادة فطاعة، وإن احتفالاً ففرحة، تأملّت حالنا مع المناسبات فإذا هي عمل يؤدّى وينسى وتطوى أعوامه.
ثمّ سألت نفسي واسمحوا لي أن أسألكم معي أفكّرنا يوماً أن تكون هذه المواسم والأعياد هي نقطة انطلاق وتحليق لنا، عوض أن تكون لحظات تمرّ لنذكرها في اللحظات التي تليها؟ لِمَ نراجع أنفسنا وإنجازاتنا فقط في ذكرى عيد الميلاد أو في رأس السنة أو حين تحدث معنا مواقف بعينها؟ لِمَ لا يكون رمضان فرصة لكي نشحذ الهمم ونرنو للمعالي؟!
رمضان شهر لا كالشهور وامتيازات قلّ أن تجدها في أي موسم آخر، فَلِمَ لا يكون هذا موسمنا للتطوّر والنجاح للابتكار والتميّز أكثر، لا للنوم والأكل وأشياء أخرى لا تسمن ولا تغني من "وجود"؟.
رمضان هو شهر الفتوحات.. شهر الانتصارات لأمّة الإسلام لمّا أخذت بأسباب النصر والعزيمة، فإذا فيه أشرقت الدنيا بوحي سمعه الثقلان، وليلة أي عمل مخلص فيها يضاعف أحسن من ألف شهر، وقد وقعت فيه من الفتوحات ما لا يقع في غيره، بل ما يجعلك مندهشاً لاتساع أيام معدودات لكلّ هذه المناسبات، منها فتح مكّة وغزوة بدر الكبرى، وفتح الأندلس ومعركة حطّين أو فتح أنطاكيا، أحداث وأحداث ربّما المتأخرة منها انتصار الجيوش العربية على إسرائيل، أو ما يعرف بحرب أكتوبر.
بل دعنا نقترب أكثر: أوليست عمليّات العاشر من رمضان وناحل عوز التي باشرتها المقاومة في معركة العصف المأكول في الحرب ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هي مبشّرات النصر القادم؟ أولم تكن مفاجآت آر 160، وإم 302 أعظم أثراً وأقوى انتصاراً، وحدّث عن طائرات أبابيل 1، كلّ هذا كان في شهر رمضان لسنة 2014، فلا نستسلم لأسراب الناسين.
وأوّل انتصار في الحياة هو الانتصار في ميدان الذات، ولهذا كان شهر رمضان للصيام والقيام أكثر من أي عبادة أخرى. فرمضان كلمته اشتقّت من الرمضاء، وهي الحرّ واللهيب الشديد الحاصل من حرارة الشمس في الصيف على الأرض الجافة، فهو إذاً معادلة صعبة لمن أراد مجاهدة النفس ومكابدة الشهوات، مثله مثل هذه الظروف الشديدة الصعبة.
وربّما من أهمّ الأشياء أن يعرف الإنسان نفسه ويحدّد قدراته في هذه الأيام، فمن ليس متواصلاً مع ذاته ولا يقدر تغييرها فكيف يجدر به تصدّر العباد وتقدّم الميدان؛ لأنّه سينطلق منها رصداً ومعرفة ثمّ إصلاحاً وتقويماً وبعدها عملاً وإنتاجاً، وهو ما يعرف بالإخلاء ثمّ الإملاء.
نعم أعطِ لنفسك أولوية العمل في رمضان دعها تتشرّب أوّلاً من رحيق أحسن الحديث، دعها ترتع في رياض العارفين وتستقي بمحبّة الأوّلين ثمّ تطمح إلى علا الآخرين، اسأل نفسك أين أنا من كلّ هذا الزخم؟ وماذا سأكون عليه بعد فترة حدّدها كما يحلو لك، لا يضير قليل من الفلسفة وبعض التساؤلات المعقولة إنّما هي لتنويرك ولتضعك على السكّة الصحيحة.
وكن حين يتفتّح الإنجاز لديك أنت نفسك، فالعالم ملّ من النسخ المكرّرة، قدوتك ليس أشخاصاً بقدر ما تستلهم منهم؛ لكي لا تصدم في يوم من أحدهم فتنسف كلّ ما أخذت منه، فقد تعلّمنا أنّه يؤخذ من الكلّ ويردّ إلاّ "صاحب القبر" عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
نبيّنا نقتدي به نمشي وراءه خطوة بخطوة، هكذا نأخذ بواسع أبواب الخير، فننطلق من رحلة تأمّلية إيمانية كانت بدايات النبوّة وهي لا بدّ أن تكون بداياتنا، قاعدة صلبة نرتكز عليها، علاقة قويّة متينة بالله وبرسوله، ثمّ انطلاق يعانق الشهب.
ولا تستأنس بكلام النّاس وأنت تنجز، فقد قيل "الاستئناس بالناس من الباس"، بل أصغِ لصوت نفسك وضميرك، واعمل بالحديث "استفت قلبك واستفت نفسك… وإن أفتاك الناس وأفتوك"، وقبله حكّمه على الشرع ثمّ النقل، وضعه في الفعل ليرى الواقع، ومن ثمّ قيّم وعدّل إلى أن تصل إلى النتيجة التي ترضيك وتلائمك.
لعلّك تسألني كيف يكون الأنس بالناس من البأس؟ نعم هو كذلك، فالناس ممكن أن يرفعوك أو يضعوك بكلمة، ومن تغير رأيه كلّ لحظة داخل الخطأ صوابه، فرأيهم نتائجه صاروخية بروزاً أو أفولاً؛ لذلك لا تلتفت لتقييم غيرك عنك فأنت خير من يقيّم نفسه، صحيح أننا نحتاج التشجيع ممّن حولنا والنقد الهادف البنّاء، فهي يمكن أن تكون رجع صدى، فقط لا تتّخذه أساساً فأهمّ شيء لا بدّ أن يخرج نابعاً منك وليس ردّات فعل على ما تسمعه هنا وهناك.
وكم تمتلئ النفوس بالمشاعر السلبية، الأحقاد والضغائن والشحناء، وهذا يرجعها سبعين خريفاً للوراء؛ لأنّه يكبّل النفس ويقيّد الروح، نعم أعتق في رمضان كل هذه المشاعر واتركها وراءك، ليس في هذا الشهر فقط وإنّما في كلّ حياتك، وهي لن تخلو مطلقاً منها، لكن لا تقف عندها وتنصّب لها مشاعرك وأحاسيسك فتلبسك ولا تتركك، لا تشاحن، لا تشاجر ولا تخاصم، اجعلها رفيقتك في رمضان وغيره، فأنت مشحون بالإنجاز لدرجة انعدام الفراغ لمثل ذلك.
أخيّتي يا من أوهموكِ أنّ البنت هدفها في الحياة "بيت الزوجيّة" وطالما قرعوا بآذانك ضرورة التعجيل بزواجك لدرجة التبست الفكرة عندك، فتجد إحدانا تعكف على أن يكون فلان نصيبها، أو أن يتعجّل لقاؤها بنصفها الثاني، فهي تدعو كلّ رمضان وكلّ ليلة فيه وكلّ قيام أن يوصلها الله بشخص خيّل لها أنّه الجنّة، وأنّه رغم موانع الوصول إليه فإنها تجدها ملحّة مصرّة فلا تخلو صلاتها ولا سجودها منه.
والدعاء باب مفتوح للجميع ودون شروط، هذا معلوم ومنصوص في قوله تعالى "ادعوني أستجب لكم"، لكن اسألي الله من فضله أكثر فهو يعلم ما هو خير، واجعلي همّتك عالية وأهدافك راقية واعملي لتحقيقها وطوّري نفسك دائماً لتكوني أنت الأنسب والأحسن، عندها تكوني أثبتّ تفوّقك كمسلمة ناجحة قادرة أن تدير حياتها المستقبلية في إطار العائلة، وستدركين حينها أنّ العائلة وسيلة وليست غاية لأهداف عظام لا تتخلّي عنها في ركام الحياة.
أمّنا، يا من شغلتك طبختك وترتيب فنائك عن ترتيب نفسك والرقيّ بعالمك، أنت قدوتنا ومعلّمتنا، ونرغب أن نأخذ منك كلّ النجاح والتميّز، وقتك لتطوير نفسك وتربية أجيالك أهمّ من ثرثرة الجيران، وإطالة السفرة، وغزوة كلّ الأسواق، أعرف قصّة أمّ قالوا لها يكفي أن يتعلّم أبناؤك فأخذت الثانوية مع ابنها في نفس السنة ودخلت معه الجامعة لتدرس نفس التخصص، لا أقول كوني مثلها؛ لأنّه كلّ ميسّر لما خلق له، بل أنتِ عالم كبير لن يفنى وسط الأشغال اليومية المتكرّرة التي لا تنتهي، والتي تؤجرين عليها إن احتسبتيها.
أخي، يا من يذود عن لواء الإسلام حين ينجح في دراسته ويعمل ويجتهد ليصل ويتألّق في منصب ووظيفة أو مجال يهمّه، ليكن هاجسك أن تكون مسلماً ناجحاً متميّزاً في كلّ أعمالك، فلا تدري أي شيء يرفع المقام، ربّما إتقانك عملك يجلب لك ترقية هنا وعند المولى، فلِمَ لا نقدّم أنا وأنت وأنتِ مثال الناجح الملتزم فنكون كمن حصّل الشمس والقمر في صعود سرمدي، ولنكن كلّنا في فلك القرآن يسبحون.
من طرف القارّات الأخرى أرى أنّه عندما يسلم أحد المشهورين في العالم، أو عندما يتقلّد أحد المسلمين في الغرب مناصب عالية في الدولة وفي المجتمع المدني يصبح حديث الإعلام عندنا، وفي كلّ محفل يتحدّث عنه كمثال يجمع بين الخصلتين الإيمان والنجاح.
مشاهير رياضة وفنّ مثل محمد علي كلاي (رحمه الله)، وماك تايسون، ويوسف إستس وغيرهم كثير، وعلماء أفذاذ مثل الجرّاح موريس بوكاي والقانوني الدكتور مراد هوفمان وغيره، حينما أسلموا جعلوا تديّنهم أوّل شيء يبرز فيهم، رغم أنّهم نشأوا بعيداً عن كلّ يقين، ورغم أنّي وإيّاك رضعنا اليقين من والدينا، فإنّنا نصرّ على الابتعاد والتنصّل منه كأنّه سبّة.
وربّما تشبّعنا في حياتنا بعدم الرضا، خاصّة إذا نظرنا لنعم كلّ من حولنا وغفلنا عن النظر لأنفسنا، ألم يقل عزّ من قائل: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، وكم يغمرنا الشعور بأقلّية ما عندنا وتصغير، نعم علينا لو ندركها ونعرف قيمتها لطرنا حمداً وشكراً ولحدّثنا عنها كثيراً.
فكلّ عابر على الدنيا وكلّنا عابرون لا بدّ أن يمرّ بفترات نزول من كرب وضيق وكدر؛ لأنّ هذا قانون الحياة، والعلاج كلّ العلاج بعد اليقين في زيارة للغائبين في المستشفيات، للمنكوبين في الملاجئ والمخيّمات، لأطفال المياتم، ولعجائز طواهم أهاليهم في كهوف النسيان، عندها فقط سندرك قيمة الحياة ودرر ما نرفل فيه من النعم.
لعلّ الكثير تجاوزوا مرحلة التأمّل والإنجاز وقعدوا للحصاد، وللتمتّع بنتيجة جهد وعمل وتعب، وهذا حقّ كلّ من اجتهد، لكنّ جاذبية الإنجاز تجعل الإنسان يحنّ دائماً إلى العمل أكثر وإلى الإبداع، وأكيد رمضان فرصة لأخذ فسحة روحية وترويحيّة عميقة للانطلاق أكثر؛ لأنّ من يدرك أهمّية غرس فسيلة على أبواب الساعة "القيامة" يعلم ضرورة أهميّة اللحظة في حياة الإنسان فلا يضيعها سدى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.