قالوا الكثير والكثير عن مميزات الوظيفة الحكومية، منها "الأمان الوظيفي"، ففي ديوان الحكومة يصعب فصلك حتى لو كنت مهملاً أو متهاوناً في دوامك، أو تقديرك السنوي ضعيف، أو حتى مرتشياً، هذا بعكس القطاع الخاص الذي قد يكون فصلك لمجرد كلمة أو تصرف غير مقصودين منك ولم يعجب صاحب العمل، أو حتى يمكن الاستغناء عنك؛ لأن أقدميتك كبيرة ومرتبك تضخم لدرجة أنه يستوعب رواتب عدة شباب جدد أكثر حيوية وانطلاقة وإنجازاً، أو ربما تغادر ليحل أحد المعارف أو أقارب صاحب العمل بدلاً منك، أو حتى من دون سبب يذكر لمجرد التقليل من العمالة أمام إغراءات الربح وسطوة الآلة التي تختصر الوقت والجهد.
وفي الوظيفة الحكومية نوع من "الاستقرار المادي"، فآخر كل شهر يحصل الموظف على راتبه دون النظر -مثلاً- لتقلبات السوق أو الكساد في بعض الفترات، ولا يفوتنا راتب التقاعد الذي تمتاز به الوظائف الحكومية، والذي إذا ما قورن براتب تقاعد وزارة التأمينات التي تفرضه للقطاع الخاص نجد أن الأخير فتات أو أقل من الفتات، والأمر ينسحب على مميزات التأمين الصحي والبدلات والمكافآت والبعثات.
وفي الوظيفة الحكومية ساعات العمل أقل، والإجازات مريحة جداً، والترقيات مضمونة، حتى ولو كان المستوى المهني متواضعاً؛ لأن الأمور تحسب غالباً بالأقدمية أو ربما المحسوبية والواسطة، وفي بعض الأحيان بالرشوة، والفائز من يدفع أكثر.
ولا ننسَ الكارثة العظمى والفادحة الكبرى التي تحل بالأسرة إذا مرض رب الأسرة مرضاً عضالاً، أو مات، وهو حِرفي ليس بصاحب وظيفة حكومية، خاصة في كثير من دولنا النامية؛ حيث نستطيع بحق أن نقول بأن هذه النوعية من الأسر تعيش محنة حقيقية، ومأساة إنسانية، في ظل غياب نظام اجتماعي تأميني رسمي يشمل هذه الأسر الضائعة؛ حيث تضطر الأم المسكينة إلى أن تواجه مصاعب الحياة وتخرج لسوق العمل وهي خالية الوفاض من أي حرفة تساعدها، فلا تجد إلا المهن الشاقة والمبتذلة، كالعمل في الأراضي الزراعية أو المصانع أو حتى خادمة في البيوت، وقد لا تساعدها صحتها على هذه المعاناة فتدفع بصغارها لمعترك الحياة في ظاهرة تعرف بأطفال الشوارع أو عمالة الأطفال الأبرياء.
لكن دعونا نوسع دائرة الرؤية شيئاً قليلاً، ونخرج عن نطاق مصالحنا الشخصية، خاصة أننا نتكلم عن "قضية وطنية عامة"، الأمر الذي يستحيل معه على أي نظام حكومي استيعاب كل الأيدي العاملة في القطاع الوظيفي، ثم إذا قمنا بتقييم أداء هذا القطاع في منطقتنا العربية نستطيع أن نخرج بحقيقة مفادها أن العمل الوظيفي الحكومي نوع من "البطالة المقنعة" التي لا تعنى إلا بالإنجازات الوهمية، تبدو من أول وهلة لو قارنّا أياً من القطاعات الحكومية بمثيلاته من القطاع الخاص.
فيكفي -مثلاً- أن تدخل أي شركة استثمارية خاصة؛ لتتعرف على الجانب المشرق للأداء الإنساني، فالموظف على مكتبه، يستقبلك ببشاشة، ويلبي طلباتك في أقصر وقت ممكن على أجود حال، بل وقد يعرض عليك العديد من الخدمات والمميزات التي تقدمها شركته في محاولة لجذب أكبر عدد ممكن من العملاء، هذا فضلاً عن الصبر على استفساراتك، واستخدام أحدث الوسائل التقنية في تلبية رغباتك، والمكان النظيف والمريح والأنيق.
ومن عدة سنوات قامت شركة IBM الشهيرة بتخصيص مبلغ 50 مليون دولار لطرح برامج توازن بين حياة الموظف وبين وظيفته، وكان أحد هذه البرامج هو العمل بالإنجاز أو مؤشرات الأداء وليس بالحضور إلى مكاتب المؤسسة، فلا يهم المؤسسة إن كان الموظف على مكتبه في الوقت المحدد أم لا، وكل ما يهمها هو أن ينجز عمله في الوقت المحدد، حتى أصبح أكثر من 40% من موظفي IBM يعملون اليوم خارج مكاتب الشركة، سواءً من منازلهم أو من مقاهي الإنترنت أو أي مكان في الدنيا.
هذا في الوقت الذي تجد في القطاع الحكومي اصطداماً قاسياً بالروتين العقيم والنظام الدفتري الغاشم، وحتى لو وجد جهاز كمبيوتر فهو إما شبكته ساقطة أو معطل، وبانتظار مشرفي الصيانة من أيام، ومشرفو الصيانة بانتظار المخازن لتصرف لهم قطع الغيار، والمخازن بانتظار إدارة المشتريات لسد العجز في النواقص.. والموظف المسؤول ربما في التأمين الصحي، وينصحك مديره بالحضور لمقابلته غداً دون أن يكلف زميله بالقيام بمهامه، وإن وجدت الموظف فهو مكفهر الوجه مقتضب الجبين، وربما انتظرت فترات حتى يكمل إفطاره أو يطالع الجريدة الصباحية أو ينتهي من الحديث مع زميله في قضية شخصية… والكثير والكثير مما لا يجهله أحد.
والقطاع الوظيفي يراه أصحاب الهمم العالية والطموح أشبه بالطوق الذي يقيد الحركة ويفتر الهمة ويقضي على بذور التميز بداخلهم، ولذلك لم يتحمل الفضلاء ولا العصاميون أسر الروتين ولا قيد الراتب المحدود ولا الساعات اليومية المملة دون إبداع يُذكر أو نجاح يُحصد.
يقول العقاد عن تجربته الوظيفية: "إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها.. فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين".
ويقول: "ومن السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين، بل ربما كانت حوادث الاستقالة أندر من حوادث الانتحار.. وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره، وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة -كما كانت يومئذ- عملاً آلياً لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملاً إلا كعمل المسامير في تلك الأداة".
فالوظيفة الرسمية عندنا في أغلب الأحوال وسيلة لغاية محددة، تتمثل في أداء مهمات محددة، تحكمها الأنظمة واللوائح، وليست وسيلة لإنتاج الأفكار المبدعة لتطوير المجتمع وتقدمه وفق استراتيجيات عليا تكاملية، ولذلك نجد أن تنمية المواهب في المؤسسات التعليمية الرسمية أمر ثانوي إن لم يكن معدوماً، وبالتالي فلا غرابة أن تكون الأساليب التعليمية أكثر تخلفاً، تعتمد على التلقين لا على التجريب، وتنعدم عوامل تشجيع الإبداع والتفكير المبدع وتفجير طاقات قوى العمل والإنتاج، وهذا أمر ثابت وسبب رئيسي من أسباب تخلفنا.
وهكذا يبقى الشباب العربي حائراً بين: أمان الوظيفة الحكومية، ومميزات القطاع الخاص رغم مخاطره، فالمغامرة في العمل الحر قد تكون وخيمة العواقب، خاصة في مجتمعات أغرقتها كل المنتجات الغربية بأقل تكلفة وأجود مستوى، وصار الفرد لا يجد في سوق العمل الخاص موضع قدم إلا بشق الأنفس.
ولذلك يبقى الزمام كله في أيدي القيادات الرسمية التي عليها دور كبير جداً في رعاية كافة المشاريع الإنتاجية الخاصة، وأن لا تبخل عليها بالدعم المادي والعلمي، ونظام رعاية اجتماعية لأفرادها يتساوى تماماً مع النظام الحكومي من حيث الأجور ورواتب التقاعد والتأمين الصحي وسائر الخدمات الاجتماعية.
أما النقابات العمالية فدورها لا يقل أهمية عن دور القيادة الرسمية، في حراسة حقوق العمال من استبداد أصحاب العمل، مع دورها الفعال في رصد مشاكل العمالة، وبذل الجهد في تذليلها وحلها.
والمحصلة أن الأمل معقود على القطاع الخاص في جذب المواهب وتنمية القدرات وتسريع عجلة الإنتاج والمنافسة مع المنتجات العالمية… لكن كل هذه الإنجازات وأكثر لن يكتب لها النجاح إلا إذا تلاشت المخاطر وتساوت المميزات مع القطاع الوظيفي.. عندها سيزهد الصفوة في السجن الوظيفي، ويطلقون العنان لمواهبهم وقدراتهم وطموحاتهم في كنف إمكانات القطاع الخاص، وسيقتصر التوظيف في القطاع الحكومي على الكسالى الذين يؤثرون الغطيط في نوم الخمول.. فمتى يتحقق ذلك الحلم الغالي في بلادنا، ونرى المواطن إذا سُئل عن مهنته يرد على استحياء بأنه: "موظف حكومي"!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.