أستاذ البخاري الذي علمنا الانفتاح على الآخر.. ماذا تعرف عن أبي عبيد الهروي؟

يحل العالم أبو عبيد القاسم الهروي ضيفاً على الجمهور في رمضان ضمن سلسلة موضوعات يدوّنها الدكتور خالد فهمي لإعادة إحياء شخصيات إسلامية من الذاكرة التراثية، وفي هذا التقرير الذي يتناول أستاذ أئمة الحديث البخاري والترمذي وأبي عيسى؛ يروي الكاتب رحلة عطاء الهروي بين علوم اللغة والحديث والاقتصاد والثقافة.. إلى أي مدى يمكن أن يكون التنقيب في التراث مفيداً؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/13 الساعة 12:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/13 الساعة 12:43 بتوقيت غرينتش

يحل العالم أبو عبيد القاسم الهروي ضيفاً على الجمهور في رمضان ضمن سلسلة موضوعات يدوّنها الدكتور خالد فهمي لإعادة إحياء شخصيات إسلامية من الذاكرة التراثية، وفي هذا التقرير الذي يتناول أستاذ أئمة الحديث البخاري والترمذي وأبي عيسى؛ يروي الكاتب رحلة عطاء الهروي بين علوم اللغة والحديث والاقتصاد والثقافة.. إلى أي مدى يمكن أن يكون التنقيب في التراث مفيداً؟

كثيرون منا سيسمعون باسم أبي عبيد القاسم الهروي للمرة الأولى، ولكن هناك أسبابا عديدة تدفع إلى مواصلة قراءة هذا المقال للتعرف على العالم الذي كان أستاذا للبخاري والترمذي، واللغوي صاحب الإسهامات المبكرة في المراجع العربية، والمؤلف صاحب التجربة المميزة في الانفتاح على الآخر.. رحلة شيقة إلى عالم الهروي يكتبها الدكتور خالد فهمي الأستاذ بكلية الآداب بجامعة المنوفية والرئيس السابق لدار الكتب والوثائق المصرية.

مدخل: أبو عبيد القاسم: قامة مرموقة!

إن تاريخ هذه الأمة في بعض النظر هو تاريخ رجالات العلم فيها الذين نهضوا بالتصور الإسلامي فعمروا جنبات الوجود الإنساني، وتحركوا في الزمان والمكان مدفوعين بإرادة عجيبة نحو تحقيق العمران!
لقد مثل الإسلام نقلة حضارية جبارة في حياة العقل الإنساني الذي آمن به، وتحرك بموجب تصوره الجديد للحياة والعالم.
ومن الأسماء الكبرى في الحياة العلمية التي فجرها الإسلام العظيم الإمام الجليل: أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي الهروي، مولى الأزد.
ولد في هراة بإقليم خراسان سنة 150هـ أو سنة 145هـ، وتوفي سنة 244هـ في مكة المكرمة. وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من هراة (1) لكنه فهم في الإسلام أن العلم قيمة دينية وحضارية أساسية، فنهض لتعليم ابنه، وإرساله إلى المكتب أو العلم، ورعايته في هذه الطريق.
وهو ما يعكس الوعي القديم بعلاقة العلم في التصور الإسلامي بحقيقة فهم الدين، من جانب والوعي بقيمة العلم بما هو محدد من محددات الحراك الاجتماعي، والترقي في طبقات المجتمع!
وفحص ترجمته تكشف عن واحد من محددات النهضة العلمية التي تمتعت به الحياة العربية الأولى في ظل الإسلام، وهو محدد حرية الانتقال، فقد عاش أبو عبيد في: خراسان، ومرو، ومصر، وسكن مكة المكرمة.
وهو في كل ذلك واحد من أبناء هذه البلدان بموجب اللسان والدين والأخوة التي تأسست في ظل وحدة فكرية وثقافية، لا تعرف بالحدود القطرية!
ولعلنا إن عرفنا أن من بين تلاميذه الذين تلقوا العلم بين يديه: البخاري، محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، المتوفي سنة 256هـ، والترمذي، أبو عيسى، صاحب السنن، المتوفي سنة 279هـ لوقفنا على مكانته ومنزلته العلمية المرموقة.
وفحص منجز الرجل العلمي، وسهمته في خدمة العلم الإسلامي يكشف عن الطبيعة الخاصة التي ميزت تاريخ العلم والحضارة في هذه الأمة.
لقد برع الرجل في مسارين حكما منجزه العلمي جميعاً، ومن خلال تحليلهما الموجز يظهر بعض ملامح عطاء العقل العربي المسلم على امتداد التاريخ، ولاسيما في العصور الأولى قبل التشوهات والانحرافات التي أصيب بها العقل العربي المسلم في مراحل لاحقة بسبب من الكسل المعرفي، من جانب ، وبسبب من حالة التدويخ التي مارسها الاستعمار الأجنبي، وحالة التبعية التي خلقها في قطاعات ضخمة من النخبة المثقفة المتسلطة في الداخل العربي المسلم.

1. الكتاب العزيز: أصل الأصول الحاكمة في مسيرة الأمة.
يكشف تحليل كتاب: فضائل القرآن ومعالمه وآدابه، لأبي عبيد القاسم بن سلام[ تحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، 1415هـ= 1995م] عن إدراك ووعي ظاهرين بموقع الكتاب العزيز في قائمة أصول التكوين العقلي، والنفسي للشخصية المسلمة.
وهذا الوعي بموقع الكتاب العزيز بما هو أصل الأصول في تكوين العقل والنفس معاً- جاء من استجماع النصوص المتواترة الكثيرة التي تقرر أفضلية الذين تعلموا القرآن الكريم وعلموه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (1/236)(1) : "إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه".
وقد استمر النظر إلى الكتاب العزيز على أنه الميراث الحقيقي الذي تركه النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في الأمة، وقد تداولت الأخبار أن العكوف على خدمة الكتاب العزيز تعلماً وتعليماً هو الاقتسام الواجب لميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج أبو عبيد في فضائله (1/241)(9) قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود وهو يقرئ قوماً القرآن، أو قال: وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء: فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد، صلى الله عليه وسلم".
2. السنة المشرفة: نسخة الوحي الأخرى الشارحة للكتاب العزيز.
ومن جانب ثان فإن فحص منجز أبي عبيد العلمي يكشف عن حضور مائز لرعاية السنة النبوية، والعناية بشرح مدونة ضخمة من الأحاديث في كتابه: غريب الحديث [تحقيق الدكتور حسين محمد محمد شرف، ومراجعة عبد السلام هارون، مجمع اللغة العربية، بالقاهرة، 1404هـ= 1984م]. يقول مراجعه (1/ز): "ومما لا ريب فيه أن كتاب "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام يعد من أنفس كتب غريب الحديث إن لم يكن أنفسها فقد جمع أبو عبيدة في كتابه هذا عامة ما وجد في كتب سابقين ، وحققه، وضبط الألفاظ فيه، ودقق في تفسيرها
وتقدير قسمة الكتاب تظهر من بيان انتمائه المعرفي بما هو عمل مرجعي من نوع النصوص، واستخراج المكنون فيها من الأحكام ، والعلم والكنوز.
والحق أن منجز معجمات غريب الحديث، وفي المقدمة منها معجم أبي عبيد نشأت بتأثير الكتاب العزيز، وهو ما جمعه أصحاب الكتب الصحاح في مدوناتهم في كتب التفسير منها، على ما نرى لذلك في صحيح البخاري.
وهذه الحفاية بلغة السنة المشرفة تمثل العماد الثاني في تأمل الأسس التي نهض عليها تكوين العقل العربي المسلم منذ البدايات الأولى في حضارة العلم في هذه الأمة العريقة .
ويكشف عن مسألة مهمة في تحليل أسس تكوين العلمي للعقل المسلم ينبغي أن يستلهمها المعاصرون في ميادين التعليم والثقافة في العالم العربي والإسلامي. وهي مسألة سهمة اللسانيات، أو العلوم اللغوية في بناء العقل وتكوينه.
إن رعاية لغة الكتاب العزيز والسنة المشرفة في منجز هذا الرائد التراثي العظيم تكشف عن إدراك مدهش لإسهام اللغة في تكوين الإدراك، وبناء رؤية متمايزة للعالم والوجود.
وهي قرينة تدعم الفرضية التي تقرر أن اللغة هي الطريق الواضحة لبناء رؤيتنا للعالم من منظور إيماني وقيمي وأخلاقي بثه الإسلام في الحياة.
3. المعجم والهوية.
من جانب ثالث مثل توجه أبي عبيد إلى خدمة المعجمية العربية، بمعجمه الرائد: الغريب المصنف [تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1989م ، ثم تحقيق الدكتور مختار العبيدي، تونس 1988م] وقيمة الغريب المصنف في تاريخ المعجمية العربية ليس راجعاً إلى أنه أول معجم عربي رتبه صاحبه وفق نظام الموضوعات أو الحقول أو المجالات الدلالية فقط. وإنما إلى أنه رتب الكلمات فيه وفق تصنيف مفهومي يعكس رؤية هذا العقل المسلم المتقدم للعالم.
إن تحليل بنية هذا المعجم التي أفتتحها بباب: خلق الخدمة إنسان- تكشف عن وعي مدهش بمركزية الإنسان في التصور الإنساني، وتبعية العوالم الأخرى لهذه المركزية، بما هي عوالم سخرها الله تعالى وذللها له، من أجل القيام بواجبه ومهمته في عمران الوجود والحياة.
إن ما تبقى من سهمة أبي عبيد في خدمة المعجمية العربية يتجاوز حدود الكلمات الصعبة أو الغريبة التي جمعها، وفسرها، ووضح معانيها، وأقام الدليل على هذا التفسير والتوضيح من الشواهد والحجج المتنوعة.
إن المتبقي الحقيقي هو ما يعكسه من رؤية العقل العربي المسلم في هذه البدايات الأولى المشرقة من تاريخ العلم عند المسلمين – للعالم والوجود ، وانعكاس هذه الرؤية على ترتيب أبواب المعجم المصنف.
4. الأموال: الاقتصاد عصب الحياة من منظور جديد يرعى الهوية
ومن جانب رابع يكشف تحليل كتابه الفذ: الأموال [تحقيق الدكتور محمد عمارة، دار السلام، القاهرة، 1430هـ= 2009م] عن انضباط ظاهر لمسارات الحياة وفقاً للمعايير والقواعد والأسس التي جاء بها الكتاب العزيز، فيقول الدكتور محمد عمارة (ص/16): "إن الاهتمام بالفكر الاقتصادي في الدين والدولة بحضارتنا الإسلامية ما كان له إلا أن يكون مهماً وبارزاً، منذ اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة وتأسيس دولتها".
وهذا الكتاب مصدر كبير، متوسع (ص/20)" يعرض للأصول في هذا الفن؛ أي لآيات وأحاديث ومأثورات ووقائع وتطبيقات الأموال في شريعة الإسلام، ودولته، كذلك لاجتهادات المذاهب الفقهية في هذا الميدان".
(ص21)" ويزيد من أهمية وخطر كتاب الأموال لأبي عبيد أن صاحبه فيه لم يكن مجرد راوية ومصنف لأحاديث فقه الأموال، وإنما كان كما هو شأنه في مصنفاته- العالم الفذ والعقل الناقد، فهو يروي الأحاديث، ويوازن ويقارن بين الروايات، وينقد السند (الراوية) ويعمل عقله في المتن (الدراية) ويرجح ما يراه راجحاً في هذا الميدان".
إن هذا الكتاب المصدر يعكس الوعي بقيمة الاقتصاد بما هو عصب في تصور الحياة في الفكرة الإسلامية، لكنه كذلك يعكس أن هذا العصب منضبط بالمرجعية العليا في الأمة التي يعبر عنها الكتاب العزيز والسنة المشرفة.
وهو ما يلزم العقل المسلم المعاصر أن ينتبه إليه، ويعلم أن تمام استقلاله الفكري والوطني مرهون باستعادة منظومة الأحكام والقيم الضابطة لنشاطه الاقتصادي.
5.العقل المسلم عقل يرعى القواسم المشتركة ويقدر ثقافات الآخر
ومن جانب أخير يكشف تحليل كتاب أبي عبيد: الخطب والمواعظ [تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1406هـ= 1986م] عن حركة إيجابية فاعلة تستهدف رعاية القواسم المشتركة مع الآخر، وتقدير القيم الإيجابية الوافدة من ثقافات العالم المختلفة.
إن هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه خطب النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظه، وخطب من سبقه من أنبياء الله تعالى ومواعظهم، كإبراهيم، موسى، وأيوب، وداود وسليمان والمسيح، ويحيي بن زكريا، ولقمان، ومواعظ الحكمة من سائر الكتب القديمة- يعكس عن روح إسلامية عبقرية تستهدف سلام العالم، وتستهدف تقدير القيم المشتركة التي تستهدف تصحيح مسيرة الحياة الإنسانية، ومحاصرة الانحرافات فيها.
وهذا الكتاب نموذج لما تمتع به العقل العربي المسلم في نشأته الأولى النقية من رعاية مجموعة من المقاصد الجليلة، منها:
أ.تقدير ما أسهمت به الثقافات المختلفة في دعم الخير الإنساني.
ب.قبول الآخر، وتقدير رموزه الإيمانية والفكرية.
ج. تعظيم المشترك الإنساني الذي يمكن الاجتماع عليه.
د. دعم سياسات عدم ازدراء الأديان، وتقدير أديان الآخرين، واعتقاداتهم، ورموزهم الإيمانية والثقافية.
هـ. السعي الإيجابي نحو سلام العالم، وتحقيق الوئام بين شعوبه، بإشاعة احترام ثقافاته الإقليمية، ونقلها، واقتباسها.
إن أبا عبيد القاسم بن سلام الهروي بعد هذا التحليل الموجز يعد مثالاً متكرراً للعقل العربي المسلم الذي نهض به الإسلام، ما زال صالحاً للاستلهام والاستثمار المعاصر.
وهو نموذج متكرر للعقل الذي يرجي ابتعاثه من جديد في ظل حالة بغيضة من الاستقطاب، والاقتصاد، والصراع العالمي ثقافياً، وفكرياً.
إننا نملك الكثير على طريق البناء والتكوين النفسي والعقلي وإعادة قراءة منجز علمائنا الرواد، وتحليل هذا المنجز، والأوليات التي حققوها- ربما تعين على استعادة نضارة هذا البناء، ونضارة هذا التكوين!

الهوامش
1. راجع الترجمة الضافية التي صنعها له العلامة الراحل الدكتور رمضان عبد التواب (ت 2001م) في مقدمة تحقيقه لكتابه : الغريب المصنف، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة1989م(ص10).