قبل أيام، كنت أبحث بشغف في مكتبات العاصمة الوافرة عن جديد الكتب، عن شيء يداعب خلايا مخي التواقة بنهم مفرط لما يحركها من سباتها المقلق، فصادفت مذكرات ثرية للسياسي المخضرم عبدالله ولد سيدي، اقتنيتها بدون تردد لما أعرفه من أسلوب سردي باذخ يميز الكاتب عبدالله قبل السياسي ولتاريخه النضالي المبهر الملهم، فهو متصوف في حب التحرر، قدم للمذكرات الكاتب والصحفي اللبناني المخضرم أنطوان حنا، صاحب السبك اللغوي الاستثنائي الجميل كجبل عامل.
بدأت قراءة المذكرات وأنا في طريقي لمنزلي بحي الشهيد المشظوفي المجاور لنصب "المسؤول الفاسد المركول على المؤخرة"، كانت سلسلة رشيقة الحرف ثرية المعنى، ترصد بعض الملامح من التاريخ النضالي لبلدنا موريتانيا.
ضمت المذكرات تفاصيل جمة ومشوقة ومن بين الأحداث التي سكنت في مخيلتي ودفعتني للكتابة عنها، حديثه عن القمة العربية التي نظمت في العاصمة نواكشوط سنة 2016 قبل نصف قرن في عام مولدي، وأقتبس الآن بعضاً مما كتب:
"كانت مدينة نواكشوط باهتة بلا ملامح حيادية لا طعم لها ولا رائحة ولا موقف، كأنها تمثال شمع رديء الصنع. كانت لها خصلة مميزة وهي الهدوء النسبي والنوم باكراً كأي طفل وديع، لكن أيام التحضير لقمة الطغاة العرب التي تقرر تنظيمها في نواكشوط بعد اعتذار مملكة الطغيان في المغرب، حولت نواكشوط لمدينة مزعجة تجعل التحرك فيها عملية مضنية بائسة، كان الجنرال التائه يحاول وضع بعض البوتوكس لوجه المدينة المترهل المتجعد رغم طفولتها، وجهها الذي أنهكته جرائم العسكر المغتصبين.
كانت القمة العربية تنظم في أيام بلون الدم والطغيان، فالثورة المضادة التي أعقبت الربيع العربي تقهقه منتصرة وتشرب كل يوم نخب سحق الشعوب، وقيل إن ديكتاتور مصر القاتل الستاليني البليد المسمى السيسي، قد يحضر هو ورهط بغيض من الطغاة المتجبرين من أمثال هاوي التنكيل بالشعب السوداني، عمر البشير، الأحاديث وقتها لم تذكر أن نيرون العصر الأبله بشار الأسد قاتل مئات الآلاف ومشرد الملايين قد يحضر.
كان الوضع كارثياً فنواكشوط لا تحتمل كل تلك الأدران، فهي مدينة تتحول لمستنقع نتن كبير كلما جاء موسوم الأمطار وسيكون كارثياً أن ينضاف للوضع قاذورات مخلفات مصانع الطغيان والفشل العربية.
حضور تلك الكائنات المضرة بالبشر والبيئة حرك مكامن الإحساس في جسمي، لذلك، خططت مع بعض الرفاق الشباب للتحرش بجبروت الثلة المجرمة.
أعلن أن القمة ستنظم في مكان خاص مجهز خصيصاً لها، كان خيمة ضخمة كُلفت مبالغ مهولة، رسمت ورفاقي خطة للتسلل وفعل فعلتنا.
وجدنا منافذ ضمن المنظمين وفي يوم الافتتاح تسلق أكثر من عشرين منا لسطح الخيمة وأثناء بث القمة المباشر أحدثنا تشققات في الخيمة وتبولنا بحرقة وألم على رؤوس محفل الطغاة، كانت آلام شعوب مكلومة تحركنا، وبقايا إنسانيتنا المحطمة بوصلتنا الوحيدة.
تم القبض بسرعة على بعضنا لكن حدث أمر شتت الكثير من الأوراق المجرمة، فالسماء انتحبت يومها وأسقطت الخيمة على جماعة السوء، تلطخت ثيابهم بطين نواكشوط الغاضب من حضور من خمروا دماء شعوبهم التي سكبوا بدون رحمة وعتقوها لأيام احتفالاتهم السادية، كان السيسي غارقاً يبحث عن من يساعده ولم يجد سوى يد مترهل الإمارات، والبشير سقط على رأسه إحدى شظايا سقف الخيمة، فدخل في غيبوبة وانتهك الطين جسده المنتفخ من خيرات السودان المنهوبة، كان جنرالنا التائه محتجزاً في زاوية ضيقة ينتظر الفرج، تعرى بعضهم وطفت جلابيبهم على سطح المستنقع، والجميل أن كل شيء تم تصويره بكاميرا موبايل، فطبعاً البث تم قطعه، في تلك الأثناء، خرجت كل المدن العربية متضامنة مع فعلنا ومؤيدة له، كانت موجة جديدة من الربيع العربي وبداية لمرحلة تحرر فخور أني كنت جزءاً منها".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.