وراء صمتهم وجع… هل نسمعه؟

ما أتحدث عنه يا أصدقاء هو علم عريض جداً، بدأتْ دراسته قبل آلاف السنين، لكنّه في مجتمعاتنا مهمّش كأنما هو المرض وليس هو علاجه، وكأنما هو البلاء وليس له دواء، وكأنما هو الجاني؛ وما هو إلا قاضٍ يحكم بالعدل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/11 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/11 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش

نتلقّى أحياناً ضربات قاسية، ونمرّ بصعوبات قد تؤثر سلباً على أفكارنا ومشاعرنا… أيامنا تصبح ثقيلة جداً، وليالينا تطول فلا نعرف لها أولاً ولا منتهى. نتأفف -ربما- نبحث عن أنفسنا، فلا نجدها إلا خلف بحور الظلام وفي آفاق الذاكرة البعيدة المتعبة. واللحظات هذه التي نعدها عداً كي ما تمرّ، قد تكون شعوراً عابراً؛ يمضي… وقد تكون مشكلة أعمق. مشكلة تحتاج علاجاً أكبر من رحلة قصيرة إلى حديقة المنزل، أو مشاهدة فيلم مع العائلة، أو سهرة مع الأصدقاء… مشكلة تحتاج علاجاً نحفظ به حياتنا من أن تتلاشى رويداً رويداً فتقترب من الموت.

قد تكون -هذه اللقطات- مشكلة نقرأ عنها في الكتب ونشخص بها المرضى… لقطات تمتدُ أسابيع طويلة، تفتك بالمشاعر والأفكار، فيغدو الإنسان بائساً، حزيناً، غير آبهٍ ولا مبالٍ بالذي يحياه… لا يجد سعادته مهما بحث، ولا تثيره كلّ أسباب الفرح التي اعتادها. لا يقوى على العمل، ولا طاقة له ببدء يوم جديد كل صباح. قد يزداد أكله بشكل مفرط أو يقل، قد يختلف نومه فيخلط الليل بالنهار، قد يفكر بإنهاء حياته؛ لتجتمع هذه الأعراض التي يعانيها جميعاً فتشكل حالة نسميها: الاكتئاب السريري.

ما أتحدث عنه يا أصدقاء هو علم عريض جداً، بدأتْ دراسته قبل آلاف السنين، لكنّه في مجتمعاتنا مهمّش كأنما هو المرض وليس هو علاجه، وكأنما هو البلاء وليس له دواء، وكأنما هو الجاني؛ وما هو إلا قاضٍ يحكم بالعدل.

الاكتئاب السريريّ وغيره من الأمراض النفسية والذهنية، مشكلة تجتاح عالمنا العربي بشكل ملحوظ؛ حيث يقدر عدد حالات الاكتئاب بـ30% في فلسطين، و20% في الأردن، بينما يتراوح بين 4 و12% في بريطانيا وأميركا وأستراليا، والأسباب كثيرة لا نكاد نحصيها، لكنّ من أهمّها أن شعوبنا لا تعترف بمرض النفس ولا بتعب العقل الذي قد يدمّر القلقُ -مثلاً- جزءاً من خلاياه، ولهذا محوران أساسيان أتطرق إليهما باختصار، ولي حديث طويل بعد ذلك -إن شاء الله- واستعراض لأهم المشاكل النفسية التي تجتاح مجتمعاتنا فلا نلتفت إليها ولا نتعرّض لها إلا بالتجاهل والنكران.

أما المحور الأول فهو الوصمة التي تلاحق أي شخص يعاني من مشكلة نفسية أو عصبية، رجلاً كان أو امرأة، فتقيده بقيود المجتمع المريضة فوق قيود مرضه، وتجعله حبيس بيته وشعوره حتى يأذن الله… تلك الوصمة التي رأيتها تدكّ بفتاة تناثرَ الوردُ على وجنتيها ولمع في عينيها بريق الجمال، تدكّ بها بين جدرانٍ أربعة عفنة، تمنعها من الخروج ومن السعادة ومن الحياة، خوفاً من أن يخدشها ما يقال عنها بعد أن تلقت علاجاً لمرض نفسيّ أثقل كاهليها وأغرق مقلتيها؛ كلام جارح قاتل يقلل من قيمة الإنسان ويجعله ضعيفاً، مسكيناً… وقد يطلق عليه في كثير من الأحيان الحكم بالجنون!… وفتاتنا كانت قد شارفت على قتل نفسها إزاء المرض النفسيّ الذي كابدته، ثم هي الآن -بعد علاجها- تشرف على قتل نفسها ثانية، لكنّ دافعها هذه المرة هو مرض مجتمعها الذي لم تجد له حلاً وما لها منه من مفرّ.

وأما المحور الثاني فأظنّه الجهل الذي يخيّم على العقول في مجتمعاتنا العربية، يودي ببصرها وبصيرتها بالتأخر الملحوظ في فهم الحقائق العلمية التي قطعت أشواطاً ومراحل طويلة، ونحن ما زلنا نرى امرأة تدفع بابنتها إلى من يضربها بالعصي والسياط كي يخرج منها ما اعتراها!… وإنّ أكثر من 80% من المرضى النفسيين والعصبيين في مجتمعاتنا تلجأ إلى كل الوسائل الممكنة قبل أن تيأس فتلجأ أخيراً إلى عيادات الأطباء الذين أمضو السنين العجاف يدرسون ويقرأون كي تكون لديهم الإجابات.

وإنني أتساءل طويلاً: لماذا نتمسك بالأفكار البالية؟ لماذا نظلم أنفسنا وأهلينا؟ لماذا لا نتحرر من العقول التي ما زالت تشدّنا إلى الوراء؟ وإننا لنقبل أن يمرض القلب فتصيب المريض الجلطات والسكتات، وتمرض الكلى فيصيبه الفشل الكلوي، ويمرض البنكرياس فيصيبه السكريّ، ثم لا نقبل مرض النفس ولا نعترف بمرض الدماغ! ماذا عن كلّ العلوم التي ندرسها وندرّسها في الطب النفسي والعصبي؟ أليست حقائق مرتبطة بتجارب أجراها باحثون وأطباء على مدار أيام وأعوام كي يخبرونا أن مريض الاكتئاب -مثلاً- ليس مكابراً يغالي في الدلال! وليس ضعيفاً لا يقوى على التغلب على بعض المشاعر والأفكار السلبية أو الطفولية؟ بل إنّ هذه المشاعر وهذه الأفكار هي حصاد مواقف يمرّ بها الإنسان فيمرض؛ لتصيبه حالة قد تهلك ذاته وتقضي على حياته إن لم يتلقَّ العلاج الصحيح… لكلّ هذا، فإنّ المريض النفسيّ يجب أن يكون محاطاً بكل الدعم والحنوّ والتفهم من أسرته وأصدقائه ومجتمعه، وأن يعترف -وأهلُه- بأنّ لديه مشكلة قد يكون حلها في بضع جلسات يتحدث فيها عن مشكلاته إلى طبيب فيتعافى.

وبرغم كلّ ما قد يحاط به المريض في مجتمعاتنا من الحبّ ومن العطاء، فإنّه لا بدّ من أن يكون التعامل معه موجهاً -كذلك- بالعقل وبالعلم، وفق الأسس الصحيحة لتقديم الخدمات الطبية للناس، كلّ الناس، ذوي الأوجاع العضوية والنفسية على حدّ سواء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد