شخابيط | النورس

مطمئناً يجلس على سطح البحر نورسنا، هادئاً قريراً، لا تعرف له جوعاً من شبع، لا أرى صديقي إلا طائراً في السماء أو مستريحاً مسترخياً على سطح البسفور..

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/10 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/10 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش

علاقتي بإسطنبول، والبسفور تحديداً، علاقة شديدة الخصوصية وشديدة الغرابة، تماماً كعلاقتي بهذا الطائر الأبيض.. بدأت علاقتي مع النورس مع أول زيارة لي إلى تركيا قرابة الخمسة أعوام مضت، "منقاره الأصفر وريشه الأبيض، وأناقته الشديدة في الطيران، واستمتاعه بما يفعل"، ما زلت أذكر هذه اللقطة العبقرية التي أخذها أحد أصدقائي لصديقنا النورس عندما كان يطير باسطاً جناحيه كأنه يمارس سقوطاً حراً، يتلاعب مع الجاذبية برشاقة ثم يبسط جناحيه مرة أخرى كأنه يطير على سطح البسفور وبين أمواجه.

لكن علاقتي الحقيقية معه بدأت عندما قررت الاستقرار بإسطنبول منذ أكثر من عامين، ربما لأنه يذكرني بالسبب الرئيسي الذي من أجله اتخذت قرار السفر هذه الحرية.

لم أكن مطارداً أو مطلوباً بعد، لكن علمت أن ذلك اليوم آتٍ لا محالة إن بقيت في مصر.
لم أفكر يوماً في السفر، ففي الأخير أنا ولد وحيد لأب وأم بدأ الكبر يرسم ملامحه على وجهيهما، وأنا مهندس ناجح تبقى لي عدة شهور على مناقشة مشروع الماجستير الخاص بي.
والأهم أني أعشق هذا البلد بجنون، مصر بلدي ووطني، كيف أتركها؟ ولمن أتركها؟ من لها إن تركتها؟

لكن أي وطن بقي لي في بلدي، أحلامي قتلت، وثورتي اغتيلت، وذكرياتي تقبع خلف القضبان مع أصحابها…
لم أكن مستعداً أن أجرب السجن مرة أخرى، لم أكن منتوياً أن أقايض حريتي ببقائي في وطني، قررت الرحيل أو كما سماه آخرون الهرب.

قلما تجد "نورس" وحيداً في السماء، دائماً تطير في سرب أو تسبح في جماعات، كذلك كنت من قبل، اجتماعياً للغاية، لا أطيق الوحدة، دائماً وسط أصحاب وأصدقاء وأبناء.

ربما كان هذا أيضاً سبباً آخر لسفري، فقد أصبحت وحيداً في وطني، رصاصات الغدر حصدت جزءاً من عالمي، وغيب الآخر بين جنبات السجون ومسخت فطرة الأخير فأيد ذلك السفاح القصير الأحمق.

كنت مرعوباً من فكرة الغربة، ليس فقط لأني سأترك أهلي وهم أحوج ما يكون إليَّ، ولكن كنت مرعوباً من الوحدة في الغربة، فأنا كصديقي النورس لا أطيق الحياة منفرداً.

لكن الله رزقني صحبة الغربة، ذلك الصديق الذي استقبلني في المطار -ذلك المكان الذي أكرهه لأنه يذكرني بوطني كلما زرته- وحمل معي شنطي التي ملأتها أمي بكل شيء ممكن أن تودع به أُم ولدها المسافر بلا وعد بالرجوع ثم استضافني في بيته بالشهور.

ذلك الآخر الذي اقتسم معي لقمته يوم جعت، وعلمني حرفة الطبخ بعد أن كنت مرفهاً لا أعرف كيف أسلق بيضة، فتح لي بيته وائتمنني على سره.

وآخر علمني بصبره، ذلك الإنسان الذي يذكرك بالله بمجرد ملاقاته، ذلك الذي هز كياني ببكائه يوم توفيت أخته من مرضها ولم يستطِع حتى أن يحضر دفنتها لأنه مطلوب، ومع ذلك كله كان صابراً محتسباً.
وآخرون ممن ظلمتهم أوطانهم مثلي فبحثوا عن وطن بديل.

مطمئناً يجلس على سطح البحر نورسنا، هادئاً قريراً، لا تعرف له جوعاً من شبع، لا أرى صديقي إلا طائراً في السماء أو مستريحاً مسترخياً على سطح البسفور.. "تغدو خماصاً وتعود بطاناً" تطلب الأمر مني الكثير حتى أفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، احتجت أن أغترب وأسافر وأجوع فلا أجد ما أأكل.. أو أجلس بالأيام حبيس المنزل؛ لأني لا أملك نقوداً لمواصلات اليوم.. أن أطرق كل باب يفتح أمامي لأجني نقوداً أسدد بها نصيبي من الإيجار الذي حان دفعه فلا أوفق..

حتى أرجع البيت منكسراً بائساً، فأبدأ في غسيل ملابسي، لا لشيء إلا لأضيع وقتي وأشغل تفكيري.. فأجد في أحد القمصان نقوداً منسية!!
لو لم أكسب شيئاً في غربتي بعد حريتي وصحبتي غير ذلك الخلق لكفاني (التوكل)، أن أسعى بكل ما أوتيت من قوة، أطير باسطاً أجنحتي وقلبي أسبح هادئاً مطمئناً لرزقي.. تماماً كصديقي النورس.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد