أُفكر كثيراً في معنى الفشل، هل خوض التجارب التعيسة التي تنتهي بتغيير البوصلة، والبدء من جديد، يعتبر فشلاً أم هو نجاح في معرفة ما يُعيق حياتنا ونجاحنا في التخلص منه؛ كي نسعى قدماً لنكتشف أنفسنا ومَواطن قوتنا !!
هل الفشل هو عدم تحقيق ما نسعى له؟! وما أدرانا أن ما نسعى له هو الأفضل لنا؟
بعد تجاربي في الحياة تغيرت وجهة نظري في كل شيء، اكتشفت أن الحياة أكبر من تجربة بائسة تخطيناها وتركناها هناك في جزء ضئيل من ذاكرتنا، الحياة أكبر من تجربة عمل سيئة أو صداقة خادعة أو غدر حبيب أو خسارة تحويشة العمر، لطالما رددنا على مسامعنا للطبطبة وللتخفيف من حدة شعورنا بالحزن أين كان سببه (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم).
يقول الفيلسوف ليمان أبوت: الحياة هي مسيرة من البراءة خلال التجارب، إما إلى الفضيلة أو الرذيلة".
وبناء عليه أنا مقتنعة أن حياتنا عبارة عن مجموعة من التجارب التي وجب علينا خوضها لنتذوق فيها الفرحة والعلقم؛ لنعتاد الأمل والانكسار، لنبدأ صغاراً ونكبر بخبرات اكتسبناها وشكلت شخصيتنا، خبرة الحياة هي المكان الذي تكون فيه القيمة وليس النتائج… أليس هذا هو المغزى من الحياة؟
لينا قررت العودة لبلدتها، تجربتها كانت قصيرة جداً، ولكنها ناجحة لأنها ساعدتها في تحديد أولوياتها، يجوز لو استمرت في بلدتها ما كانت أيقنت مدى تعلقها بحبيبها، ولكن تجربة سفرها كانت الفيصل في تحديد هدفها، لم أتعجب من قرارها كنت سأتعجب لو استمرت بعيداً عن من يهواهُ قلبها، وهل يقوى القلب على النبض بدون حياة فالحب هو الحياة.
وصلت رفيقةُ السكن الجديدة حفصة من المغرب، كنت متشوقة لتكوين دائرة معارف تحميني من شعور الوحدة، لم تكن الغربة أثرت في بعد، ولكن الوحدة ملأت صدري فأيقنت أنه من الصعب الشعور بذلك الدفء الأسري مرة أخرى، ولكن ممكن أن نتعايش في وجود أرواح نتآلف معها.
لم أجد صعوبة في بناء علاقة صداقة قوية معها أعتز بها حتى الآن، كانت أرواحنا متشابهة، فالعيب عندنا واحد والمسموح معروف حدوده، نحب الموسيقى ونتعبد خاشعين في بيت الله، هي سبب حبي للمطبخ المغربي، تجربة جميلة محفورة في قلبي وذاكرتي بمواقف كثيرة مررنا بها، عادة تنتهي بضحك هستيري وتناول قطعة من الكنافة النابلسي تلك الحلوى الشامية التي أهواها، كم أشتهيها الآن مع كاسة شاي وجلسة من جلساتنا الممتعة.
قبل الرحلة بساعة يجب علينا الحضور للمكتب الخاص بطاقم الضيافة لمراجعة إجراءات الأمن والسلامة ولتحديد واجبات ومسؤوليات كل فرد في الطاقم، عادة تكون ساعة غير مبهجة، خاصة في وجود مشرف للطاقم من المعروفين بالنفسنة، وما أكثرهم حيث يتفنن في إحراج المضيفات الجدد بأسئلة صعبة والاستهزاء بهم، وآخرين ترى جمال أرواحهم من خلال تلك الهالة من الطاقة الإيجابية التي تشع منهم، وبناء على شخصية مشرف الرحلة تصبح تجربتك إما ممتعة أو شاقة… للآخرين تأثير كبير على حالتنا النفسية، خاصة في بداية حياتنا العملية، ولكن مع تجارب الحياة نتعلم أن نتحصن من تلك الأنفس المريضة.
كانت رحلتي الأولى إلى لاهور، ثاني أكبر المدن في باكستان، المسافرون من تلك البلدة عادة مسالمون ومهذبون، معظمهم من طبقة العمال الكادحة التي تظهر في قسمات وجوههم الطيبة والسماحة، والفقر.. أكثر ما أثّر في سلباً هي نظرة بعض الزملاء لهم، كانت نظرة تعالٍ ودونية تلك النظرة التي لا أطيقها، وطريقة وضع الطعام أمام الراكب دون خيارات وكأنه مجبر على قبول أي شيء يوضع أمامه، بالإضافة للنكات السخيفة عن رائحتهم وطريقة أكلهم، هذا النوع من البشر الذي يستأسد فقط على الغلابة، تجدهم يتحولون لفئران أمام رئيسهم في العمل، كنت أتساءل هل تجاربهم في الحياة هي التي شكلت تلك الشخصية المشوهة أم هي جينات ولدوا بها وترعرعت في بيئة حاضنة لتلك الأمراض!!
أتذكر أنني تحدثت مع مشرفة الرحلة عن عدم تقبلي لتلك الطريقة، أجابتني مبتسمة، بأنها رحلتي الأولى، وأنه مع الوقت وكثرة الرحلات والتجارب ستختلف نظرتي لاحقاً وقد أفعل مثلهم، هي مسألة وقت فقط.. لكنني والحمد لله لم تختلف نظرتي قط.
في الرحلة الأولى يُسمح لنا بالجلوس في كابينة القيادة، احتفاء بنا على متن الطائرة، وكانت من أروع التجارب، دلفت داخل الكابينة، استقبلني الكابتن بكوب صغير من المكسرات التي يتم تقديمها لهم بين حين وآخر، روحه الجميلة جعلت تجربتي الأولى في الطيران لا تنسى.
أقلعت الطائرة، وبدأ قلبي ينبض بسرعة، إنها رهبة التجربة الأولى، وجدت نفسي أحلّق بين السحب، حاولت أسترق السمع لعلي أسمع دعوات الآملين والتائبين، ولكنني سمعتُ لحناً جميلاً عزفته دقات قلبي فرحا ورهبةً في آن واحد… هنا ترتفع الأدعية، وهنا حلقت ولامست أحد أحلامي.
هل سأشعر بنفس الرهبة مرة أخرى أم للتجربة الأولى سحرها؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.