رواية عميقة الرؤى، مفصلية الأحداث، جميلة في سردها وقوة بنائها، يكفي أن نقول عنها إن كل نفس بشرية -على اختلاف تراكيبها وتنوع مشاربها- يمكن أن تغدو أختاً رابعة لهؤلاء الثلاثة كارامازوف، بما تنطوي فيهم من أسرار النفس الملهمة، المترددة بين نقيضي الفجور والتقوى.
قد أوقعني الكتاب في هواه، وفي حيرة من أمري هل أعيده مرة أخرى، أم أنتقل لسواه؟ (فعلى مشارف النهاية تستشعر ذلك الفقد المضني الذي سيلحق برابطة الحبر، ويفكك الاتصال بينك وبين الشخوص التي عايشتها طيلة ما يربو عن الألف وخمسمائة صفحة)، لا سيما وأنت موقن بأن القراءة الثانية ستكشف عالماً آخر غاب في لحظات من شبه اليقظة، وأخرى من التي لا تمتلك فيها العقل كاملاً!!
يشبه الإدمان ذاك التنقيب عن (الكيف) الذي ميّز قلم دوستويفسكي، قلم يتكشف عن عوالم غربية، سره القدرة على العمق والإحاطة في تمثّل تفاصيل الحياة، أتساءل كيف تنسى له ذلك؟ بل كيف استطاع أن يصادق قارئه الافتراضي -الذي تفصله عنه حيوات وأزمنة- منذ الصفحة الأولى من الكتاب، فتلمس خطابه المباشر الذي لا يفتقد مثقال ذرة من حرارة الصدق، بل لا يغيب عنه إلا أن يناديك بالاسم المحبب، ولا ينقص هذا شيء من المجالسة والقرب.
ثم تلج بيت آل كارامازوف، فتتعرف إلى (إيفان فيدروفيتش) المثقف، المتحفظ ذي النزعة العقلية المدمرة، إنه متاح منبسط تماماً في الصفحات التي تلت قراره ترك حبيبته (كاتيا) والسفر إلى موسكو، تحديداً في حواره الذي جمعه مع (أليوشا) إلى مائدة المطعم.
(إيفان) مدوخ جداً في جدلية قوانين الحياة، ولولا أنه قد سبق لي مطالعة (حوار مع صديقي الملحد) الذي أجاب فيه الدكتور مصطفى محمود عن الأسئلة الوجودية الشائكة، لكان من الممكن أن يشدني شداً لا ينفك، ويرهقني بأسئلته وخيالته المضطربة، مع أني أعترف له بحقه في الفكر والتساؤل مهما دقّ وخطر، لكن يبقى الإشكال كله أن حكمة الحوادث لا تتجلى في كل شيء، ولا تسعها الأفهام غالباً.
أما (أليوشا) الذي يشغل مساحة النفس الفاضلة، السماوية، التي تسع الجميع بطهارتها وسلامة فطرتها، فقد كان يخلق الاتزان وسط الجموح المتصاعد على مدار الأحداث، وعلى أنه كان محور الرواية الرئيس، إلا أن دوستويفسكي العبقري الفذ، لا يشعرك بتاتاً بهذه المركزية، بل يبسط قلمه ليبدي الجميع، على أنه اعترف مقدماً بأنه يكتب لأجل أليوشا لا سواه، فأين تجده شاخصاً من هذه الأحداث؟
بحسبي.. قد وجدته وكذا نفسي، في حادثة وفاة شيخه (روسيما) عند مراسم التشييع وما اتصل بها من حدث تافه جداً لا وزن له عند الطبيعة، لكن كان وقعه على إليوشا جللاً، اضطربت له نفسه اضطراباً مبرراً معذوراً، ثم عادت لتسكن وتستقيم، إن القارئ عند هذه الحادثة تحديداً لا يعرف إلى ما يرجئ ذاك الأثر العميق الذي تفيض به نفسه، أللذاكرة التي تنهمر بأحداث مشابهة من الخذلان غير المتوقع الذي يعقب شدائد الترقب، أم إلى الإعجاب الباهر الذي يكبر صاحب القلم، ويعيده إلى السؤال الأول: كيف فعل هذا؟
أم لا إلى هذا ولا إلى ذاك، بل إلى الانسياب المتلطف للأحداث الذي يعيد للعقل اتزانه، ويذكره بالعناية المطلقة التي تحيطه، حتى وهي تحجب عنه خبرها المعياري الجازم، وتلزمه بما يناسبه من المعرفة الاحتمالية المحدودة، لن تحصل إلا على إجابة واحدة على كل حال:
نعم.. إن الحياة تفعل هذا كثيراً، حتى وإن لم نعرف لما يحدث لنا هذا!
(ميتا) أو ديمتري فيدروفيتش، الجزء المجنون من الكتاب – لا أنكره ولا اعترف به؛ لأنه جزء النفس الذي يستغرق قدراً لا يستهان به من طاقة العقل للسيطرة عليها في خفاء تام دون أن يعرف أحداً، ولا حتى العقل نفسه، لقد دَرُبَ على فعل ذلك.
كيف انفلت من عقاله؟ إنه يحمل قلباً كريماً، ونفساً ساذجة منفتحة للعواطف الخيرة التي تذكيها الانكسارات، لا يمكن لهوى طائش، ولا للسكر والعربدة أن يبررا كل ذلك، فهل نفسره بدماء فيدروفتش الأب التي تسري في عروقه. أم نرجع واقعة القتل إلى نفس أخرى انبثقت من الحضيض، تتضرم بقبس من جهنم. لا عتب.. لقد كانت غريبة الأطوار، تفيض بالتقلبات والضجيج الداخلي، ابتعثها الكاتب لتنفذ العدالة بطريقة تليق بالجاني، المجني عليه، لن تبرح التساؤلات تطاردك بخصوصها، إن الكاتب الذي عوّدك بسط إجابة سيكولوجية عن كل تصرف من تصرفات شخوصه، يفتح مجالاً لخصوبة الفكر، وقدرة التصور لترتّبها كما تشاء وكما يحلو لك ضمن المجموعة كارامازوف.
نبذة حول دوستويفسكي*:
"إن القلق لا يزال يهز روحه، ولكنه ليس قلق الحياة اليومية، بل قلق المشكلات الفلسفية، والمسائل الإنسانية التي أوحت له بأمهات آثاره".
لقد تمثل أفكاره في شخوص.. فعرض من خلالها تفاصيل وأوجه وفروق دقيقة، وقلب فيها الرأي تكراراً، ولم يلزم قارئه بمذهب ما أو حل محدد لمشكلاته ومقلقاته، وقد تصدر هذه المقلقات المشكلة الميتافيزيقية (حول وجود الشر)، وهذه واحدة من المشكلات التي لا تؤرّقني خصوصاً، وأطمئن إلى أني قد فهمتها يوماً ما فيما مضى، فلا أكلف عقلي مشقة التفكير فيها مجدداً بل أجمعه كله إلى النوع الثاني من المشكلات ألا وهي (السر الإنساني في تركيبة النفس).
ثم يتدرج إلى مشكلة علاقة الإنسان بالآخر وبالله، وعن جدوى العدالة يتساءل: هل تشفي المجرم حين تفصله عن المجتمع، وتلقيه في غيابات اليأس؟ إنها خلو من الروح الإنسانية. ثم يصل بفكره وتجاربه إلى أن الدين وحده هو الذي يقيم للنفس وزنها. إنه يقول لخصومه: (لا.. أنا لم أؤمن بالله وأعترف به كما يفعل طفل، وإنما وصلت إلى هذا الإيمان صاعداً من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم)، هنا لا كما في أي كتاب مشابه ستتعرف على رغد الإيمان الذي وصلك على طبق من ذهب.
(*جزء من مقدمة كتاب الإخوة كارامازوف بتصرف).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.